بقلم جورج عبيد -
لخمسة عشر عامًا أشعل دم رفيق الحريري أرضًا ارتجت غير مرّة واحترقت بنيران الحروب المتنقّلة على أرضها، لتفيق بعد حقبة طويلة منها، غريبة عن ذاتها، ضمن شركة سلبتها من هويتها وتراثها، من تكوينها الجذوريّ إلى تلاوين لم تتمثّل فيها سوى حضارة المال وجبروت السلطة وثقافة السلب، فبات أهلها الأصيلون الأصليون غرباء عنها، وانقطعت الصِلات الرحميّة بها، لترثها مجموعة أثرياء ليس بينهم وبين بيروت علاقة وجد وود وجذور ورحم، ابتاعوا شققهم من تلك الشركة فيما أهل بيروت، والمالكون لمنازلهم ومتاجرهم ومكاتبهم وأسواقهم قد أمسوا مجرّد مالكين لأسهم تتحرّك صعودًا وهبوطًا كما البورصات تتحرّك.
غير مرّة تساءلنا فيما نشرنا عبر موقعنا هذا، هل حصل في التاريخ، أن امتلك شخصّ أو شركة عقاريّة لعاصمة من عواصم العالم، هل يمكن أن نتخيّل أن العاصمة الفرنسيّة باريس متجزّأة إلى مجموعة أقسام ووسطها ملك لشركة عقاريّة أو شخص؟ إن سوليدير التي أنشأها رفيق الحريري رحمه الله، سلبت بيروت بوسطها من أهلها، ولا يسوغ تركها بموقعها الحاليّ بلا ىفاق قانونيّة واضحة، كما هي أي شركة سوليدير معفيّة من الضرائب، وقد باعت الشقق والمتاجر أو أجّرتها بأغلى الأثمان لدرجة أنّ متر الأرض فيها قد بلغ في مرحلة من المراحل ثلاثين ألف دولار على حساب المواطنين، وهذا بدوره جزء جوهريّ من الأزمة الحاليّة العاصفة بنا.
الكلام على سوليدير، وعلى امتلاكها لوسط بيروت، دالّ على أنّ الحريريّة السياسيّة التي دافع عنها السيد الرئيس سعد الحريري، هي سبب جوهريّ من أسباب انتزاع بيروت العاصمة من هويتها الوطنيّة إل اللاهويّة مع امتلاك سوليدير لها، وهي سبب جوهريّ بدوره لهذا التدحرج المقيت الذي يعيشه لبنان ماليًّا واقتصاديًّا بسبب رمي لبنان في أتّون الاقتصاد الريعيّ، والذي أدّى إلى ازدياد المديونيّة وصولاً إلى الاكتتاب الأعمى في اليوروبوندز، مرورًا بهيكلة الدين عبر الدين التي اجترحها الرئيس السابق فؤاد السنيورة وقد لاقت معارضة عاصفة من نواب شرفاء واجهوها، وعلى رأسهم الرئيسان حسين الحسيني وسليم الحص، فيما سار الباقون في ركبها، ولم يكن العماد ميشال عون ولا نواب التيار الوطنيّ الحرّ قد وجدوا، بل كانوا في الشارع يناضلون.
سنترك خطاب سعد الحريري جانبًا، مع ملاحظة واضحة بأنّه خطاب تبريري أمام قومه وتياره، أكّد فيه عل سقوط التسوية بهجومه على من أسماه برئيس الظل، راصفًا سليمان فرنجيّة ووليد جنبلاط بالصديقين والحليفين، متناسيًا بأنّ جبران باسيل قد زار خلال 72 ساعة خمسة عشر بلدًا ما بين أوروبا وروسيا لتحريره من قبضة وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، وربّما نسي دور ابن عمّته نادر والدكتور غطاس خوري في التحريض على إطلاقه وتحريره من السعوديّة. ما هو الأهمّ ايضًا في الخطاب ومن ضمن الملاحظة عينها، أنه أكّد على مدّ اليد لحزب الله بقوله بأنّ مدرسة رفيق الحريري لافظة للأدبيات الفتنويّة، وقد تموضع خفيًّا في التفاوضين: السعوديّ-السوريّ، والإماراتيّ-السوريّ.
ليس لهذا السبب فشل المهرجان أو تجوّف بالشكل والمضمون، بل لأسباب ستكون مع الأيام صادمة لسعد نفسه، علمًا أن الحضور الدبلوماسيّ المترجم بحضور السفيرة الأميركيّة مارغرين ريتشارد والقائمين بالأعمال السعودي وليد البخاري والإماراتي الشامسي، كان للرقابة والتقييم، وتعتبر مصادر عارفة بأنّ نوعيّة هذا الحضور لن تستطيع تعويم سعد الحريري، لأسباب تعود إلى شخصيته من ناحية ومن ناحية ثانية، لأنّ السعوديّة وعلى عكس ما رشح غير ضامنة لديمومته بل هي أملت بعض الشروط في ترتيب بيته الداخليّ، وقد أعلن ذلك جهارًا، وإلى الآن لم يرّ مسؤولاً سعوديًّا كبيرًا ليلتمس منه بارقة أمل. ثمّة أمران للافتان لا بد من ذكرهما، وهما أنّ الحريري قبل تقديمه استقالته اتصل بصديقه عادل الجبير ملتمسًا نصيحة من الأمير محمد بن سلمان، فأتاه الجواب حين أسس للتسوية مع رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون لم يسأل عن رأينا "خلليه يقبّع شوكو بإيدو"، والأمر الثاني أن الحريري توسّط صديقًا حميمًا بينه وبين بن سلمان، فأتاه جواب الأخير، سعد لم يعد ولدنا.
ليس هذا ما سيصدم سعد، حيث هذا المهرجان أكّد فيه أفول نجمه، بل سطوع نجم شقيقه بهاء. وفي المعلومات، بهاء الحريري، أخذ قراره بامشاركة في الحياة السياسيّة اللبنانيّة بصورة تدريجيّة. لعلّ القارئ المتابع لاحظ بأن خلال السنوات الماضية وفي ذكرى استشهاد الرفيق لم ينبثّ بهاء ببنت شفة، بل كان الصامت الأكبر، حتى تمّ استدعاء سعد الحريري نحو الأسر في السعوديّة. حرّك أعوان بن سلمان بهاء، ليكون البديل عن سعد. أرسلوا بطلب عمّته النائبّة بهيّة الحريري بهدف إقناعها فرفضت الذهاب إلى الرياض، كما رفضت تولية بهاء مكان أخيه، حتى خرج نهاد المشنوق إلى العلن، وقال نحن لا نساق كالغنم. سقط مفهوم إسقاط بهاء في الوسط السياسيّ اللبنانيّ، فأخرج منه، بمسعى مشترك من الرئيس ميشال عون الذي اهتمّ بتحرير سعد بالتعاون مع الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون، وجبران باسيل وأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، حيث كان بدوره معوانًا في هذا الاتجاه. عاد سعد إلى لبنان، وتم إحياء التسوية، وصارت الانتخابات النيابيّة وتعومت التسوية بالحكومة الثانية التي رأسها، وكان شبح بهاء يخترق الحجب من عمّان إلى طرابلس بتعويمه لرجل تركيا اللواء أشرف ريفي بحكم الصداقة القويّة بينهما علمًا بأن ليس من علاقة رابطة بين بهاء وتركيا، وبهدف تطويق سعد في طرابلس، فالخلاف عميق بين سعد وبهاء، وملّف الانتخابات البلديّة في بيروت أحد العناوين الساخنة غير المنسيّة.
ركب بهاء الحريري موجة الحراك في بيروت، وتعاون مع أشرف ريفي بغية إرسال شباب طرابلس وعكار والضنيّة بهدف الشغب في بيروت، وما حدث اليوم بالتحديد في ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري، إحدى ثمرات التعاون الوثيق بين بهاء الحريري وأشرف ريفي. لقد جوّفوا المهرجان بهذا الصدام... والسعوديون ليسوا بعيدين عن بهاء الحريري في استظهاره واستعادته واستنزاله في الدائرة اللبنانيّة كخصم بل منافس عدائيّ بوجه شقيقه سعد، وهو لم يعد بالتعبير الدقيق ولدهم.
وفي تقييم عام، الدائرة السنيّة عمومًا في لبنان مشدودة إلى صراع بين جبهتين، جبهة سعوديّة-إماراتية بوجه جبهة تركية-قطريّة، ممتدّة من طرابلس إلى بيروت. لكنّ الفرادة أن أشرف ريفي العثمانيّ الهوى وبهاء الحريري السعوديّ الهوى متفقان على إضعاف سعد الحريري وتحطيم صورته ومن ثمّ إبعاده عن الدائرة السياسيّة اللبنانيّة. وفي المحصلة من دمّر الحريريّة السياسيّة وأبطلها ليس رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ولا رئيس التيار الوطنيّ الحرّ جبران باسيل، بل هم من عوّموها وأعادوها بواسطة التسوية إلى الحياة، ولا ننسى دور الصديق الكبير نائب رئيس المجلس إيلي الفرزلي، في تدوير الزوايا وقد كان له الفضل الكبير في إحياء تلك التسوية وترسيمها، وكعمود رخاميّ لها كان لحضوره المهرجان اليوم أثر بليغ وطيّب، مؤكّدًا بأن الأرثوذكس قادرون على أن يكونوا جسورًا في حفظ الميثاق وترسيخه. بل الذي أبطل الحريريّة السياسيّة أهلها والمنتسبون إليها، المحتربون سياسيًّا والمتمزقون بنيويًّا. ولعلّ ما صرّح به محامي بهاء الأستاذ حلبي عبر الإعلام لدليل واضح على ذلك.
في الختام: هذا المهرجان وما رافقه من أحداث بين تيار المستقبل وأهل الحراك، أو من أرسلهم ريفي وبهاء، فشل فشلاً ذريعًا وسيتضّح مع الوقت أن نجم سعد آفل ونحم بهاء ساطع.
وأبلغ كلام صدر بردّ جبران باسيل: "رحت بعيد بس راح ترجع، بس الفرق إنو طريق الرجعة راح بتكون أطول وأصعب عليك". وفي كلّ الأحوال رحم الله أبا بهاء.