مقدمة برنامج "ضروري نحكي" مع داليا داغر:
على مشارف تلّة جبلية رائعة المناظر تطل على بيروت سأخبركم ما رواه لنا من ولدوا في هذا الوطن الحبيب لبنان في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات...
أول من أمس كنا في جلسة؛
حدثتنا الصبية الأولى عن والدها؛ الخياط الذي نزح من بكفيا إلى "البلد" ليلوّن أسواقها بخيطان الفساتين حتى أتت الحرب وما تلاها من مصادرة للأملاك مقابل "تشيك" هزيل من الأموال الوهمية، فقضى عمره الباقي في حرب خاصة لاستعادة حقه قبل أن يخونه قلبه ويرحل ولا تجد أسرته من بعده من يكمل المعركة.
وروت ثانية عن والد لم ترَ دمعته في حياتها إلا يوم واحد، حين رأى عشرين شخصاً يصلون في سيارتين إلى واحدة من محطات التهجير التاريخيّ، محملين بكلِّ أنواع الخيبة وأشكالها. وصفت ذاك القفز المتتالي في المجهول؛ من دون بيت أو مال أو ذكريات أو آفاق مستقبل.
وأخبرنا ثالث عن التدمير الاسرائيليّ للبشر والحجر وكل شيء آخر فوق رأسه، ليفاجأ وهو يفتح عينيه برؤية الناس يكملون حياتهم بشكل طبيعيّ جداً على مرمى حجر من مصيبته.
وروى رابع عما درجت المليشيات على فعله في الحيّ الذي نشأ فيه، فرد آخر أن المليشيات المناوئة لها في الحيّ الآخر الذي كان يقطنه هو إنما كانت تفعل الأمر نفسه.
وتحدث سادس عن أنه لم يعش لا من قريب ولا من بعيد في قريته البعيدة كلّ ما هو مكتوب في بعض الروايات.
ومن الذكريات البعيدة إلى تفجير المرفأ القريب، إلى كل ما يطبع يومياتنا من مآسي؛ وواحدة منها لا بل أعظمها أنهم ينجحون في التعامل معنا بـ"المُفَرَّق". فلا شيء اسمه حق عام، مع تحول مخيف للمشاكل الكبيرة إلى ما يشبه المشاكل الشخصية. فلا أحد يعنى بمكافحة الفساد إلا حين يحتاج إلى توقيع معاملة ما وتُعرقل أموره، ليفقد اهتمامه بالفساد ومكافحته فور توقيع المعاملة. ولا أحد يرفع الصوت أو يحتج إلا حين تُمس مصلحته المباشرة، لينسى "القضية" أو يتناساها بمجرد أن تحل مشكلته. والكثيرون لا يشعرون بأزمة الأسعار وشح الدواء والكهرباء والمحروقات لمجرد أنهم يتدبرون أنفسهم. وهو ما يسمح للظالم بأن يظلم، ويواصل حياته من دون أن يخشى أحدًا أو شيئًا، لمعرفته أننا آلاف الشعوب في شعب واحد، وما من يهتم من بيننا لما يمكن أن يصيب جاره طالما هو بخير.
لكن! هل هذا صحيح فعلاً؟؛ طرحنا على أنفسنا هذا السؤال وتأملنا بحجم استفادة الخصوم أو الأعداء من انشغال كل منا بتخليص نفسه، فيما نغرق جميعنا، وتذكرنا كل تلك الروايات المحفورة في الوجدان اللبنانيّ عن الثورين الأبيض والأسود. وهو ما يفترض أن يكون واضحاً من دون التباس اليوم: مخطئ جداً من يعتقد أن نصف البلد سيغرق ونصفه الآخر لا؛ أو أن نصف البلد سينقطع من البنزين ونصفه الآخر لا؛ أو أن نصف المواطنين سيحرمون من الدواء والنصف الآخر لا.
السياسيون وناس السياسيين الذين يعتقدون أنهم يقودون خصومهم أو جيرانهم إلى التعثر والفشل فيما هم سيسلمون لا يفهمون شيء من كل التجارب التي عرفها هذا البلد؛ ولا من القصص الغنية بالعبر.
غداً، لن يكون هناك منتصر؛ من يعتقد أن بوسعه الركض إلى التلة لينقذ نفسه من الطوفان مخطئ جداً وكثيراً؛ لقد دفع البلد كله، لا مجموعة لبنانية أو منطقة أو فئة، ثمن الحروب الاسرائيلية، ودفع البلد كله ثمن التهجير، ودفع البلد كله ثمن 13 تشرين 1990، ودفع البلد كله ثمن السياسات الحريرية الاقتصادية والمالية، ودفع البلد كله ثمن تعطيل خطط الكهرباء، ودفع البلد كله ثمن العنتريات المختلفة، ودفع البلد كله ثمن الأشهر التسعة الماضية وسيدفع البلد كله بجميع ناسه وفئاته ومناطقه ثمن مواصلة الانتقام السياسي.
في حلقتنا الليلة نبحث مستقبل رفع الحصانات والتدقيق الجنائي واستعادة الموال المهربة إلى الخارج ومساعدات البنك الدولي والاستشارات والحكومة، مع كل ما يواجهه المواطن اللبناني من ضغط معيشي خاص بالأجور وغلاء المعيشة والكهرباء والمحروقات والدواء والاستشفاء؛ مع عضو تكل لبنان القوي النائب زياد أسود؛ في حلقة يتخللها عدة مداخلات مع معنيين في القطاع الاقتصادي.