منذ عام ونيّف بدأت حرب غزة بعد عملية "طوفان الاقصى" التي أعطت اسرائيل مبرراً شَكلياً للرد بحرب إبادة بحق الشعب الفلسطيني، رداً على ما أقدمت عليه حماس وما اعتُبر تهوراً عسكرياً كبيراً، فكان المجتمع الدولي متضامناً مع اسرائيل بالمُطلَق وراضياً عن ردّها الاجرامي تحت ذريعة حقها ب"الدفاع عن النفس" واسترداد المخطوفين وحفظ أمنها.
أدخَل حزب الله نفسه ولبنان في معركة لم يُحسَب لها حساب، سُمّيت ب"حرب إسناد غزة"، وأكّدت قيادة الحزب على أهمية "وحدة الساحات" وعدم ترك غزة والشعب الفلسطيني فريسة الرد الاسرائيلي الغاشم، فأطلق الحزب صواريخه بشكل دوري ويومي باتجاه شمال فلسطين المحتلة، للتخفيف عن حماس وتوسيع جبهات المواجهة على الجيش الاسرائيلي. بدأت حرب الاسناد بإطلاق الصواريخ بشكل منظّم مع ما أسموه ب"قواعد الاشتباك"، أي أن تسقط الصواريخ على أهداف غير مهمة وغير استراتيجية، مقابل ردود اسرائيلية بقصف جوّي يطال الجنوب والبقاع ضمن حدود مشابهة بقيمة الأهداف. وكأن اسرائيل لاعب يمكن الاتفاق معه على نوعية الاهداف العسكرية وحجمها واستمرار لعبة البينغ-بونغ التي بدأت، فتطورت إلى نزوح مستوطني شمال اسرائيل ولجوئهم إلى الملاجىء خوفاً من امكانية سقوط الصواريخ على بيوتهم.
وكانت الاحتفالات تعمّ الاعلام اللبناني والناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي الناطقين بإسم محور الممانعة في لبنان، للتباهي بقوّة الحزب وقدراته الهائلة، والشماتة بزرع الخوف لدى المستوطنين وأخذهم الى الملاجىء. حتى أنّ قيادة الحزب تباهت بالانجاز وأكدت مراراً وتكراراً بأنّ المستوطنين لن يعودوا الى المنازل لو مهما فعلت اسرائيل، وأنّ الحرب على حماس وغزّة يجب ان تتوقف فوراً. اغتالت اسرائيل قياديين عسكريين ذات رتب عالية ومواقع مسؤولية كبيرة، وعندها أتى إلى لبنان موفدون عديدون، وحاولوا التفاوض مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري الذي أكّد أمامهم وأمام الاعلام ألّا تفاوض على وقف اطلاق النار من الجانب اللبناني الا بعد وقف الحرب على غزة.
بعدها قامت اسرائيل بعمليات اغتيال تصعيدية قاسية استهدفت القائد العسكري الكبيرفي الحزب فؤاد شكر الذي يوصف باليد اليمنى للسيد نصرالله، في الضاحية الجنوبية، ثم عمدت إلى اغتيال رئيس المكتب السياسي في حماس اسماعيل هنية في آخر شهر تموز ٢٠٢٤، داخل غرفته في ايران خلال زيارته للبلاد، وتمّ تسليم قيادة الحركة للسنوار مع ما رافق هذا التسليم من احتفالات اعلامية وسياسية وكأنه انتصار على الاغتيال ومع ما يعنيه السنوار من رمزية مرتبطة بعملية طوفان الأقصى.
لكن اغتيال هنية لم يخفف من تصعيد حزب الله العسكري بل جعل السيد نصرالله يعلن بأنّ مفتاح وقف اطلاق النار من الجهة اللبنانية مرتبط بوقف اطلاق النار مع ربط لبنان بغزّة ارتباطاً تاماً وشاملاً. كذلك طمأن السيد نصرالله اللبنانيين أنّه لن يكون هنالك تصعيد اسرائيلي ولا حرب شاملة لأنّ الاسرائيلي أجبَن من أن يوسّع الحرب، فالمقاومة جاهزة لا لمنعه من الدخول الى لبنان فقط، بل لتحرير الاراضي اللبنانية المحتلة والدخول الى الجليل وتحرير القدس أيضاً، لأنّ أي حرب شاملة تندلع ستكون عنوان نهاية الكيان الاسرائيلي. سقط العديد من الشهداء ونَعاهم الحزب مع بيانات تبدأ بمقدّمة النص "نصرةً لغزّة" وتُختَم بشعار "على طريق القدس".
اسرائيل التي كانت تقوم يومياً بمجازر كبيرة في غزة، وعملية تدمير ممنهجة وإنهاء لكل مقومات الحياة فيها، لم تبق متفرجة على تصعيد الحزب من الجهة اللبنانية وتهديداته وتأثير إطلاق الصواريخ على مستوطنيها في الشمال، فبدأت في شهر أيلول بالتصعيد الكبير الذي حضّرت له منذ سنوات، فكانت عملية تفجير أجهزة البيجر بيد ٤٠٠٠ عنصر من حزب الله في ضربة واحدة وصلت إحداها لتنال من سفير ايران في لبنان الذي أصيب أيضاً، وعملية تفجير التوكي-ووكي في اليوم التالي، مع ما شكّلته هذه العملية من صدمة كبيرة، تلتها عمليات اغتيال كبرى في ٢٠ ايلول حيث نالت من ابراهيم عقيل، القائد الرئيسي لقوات الرضوان مع مجموعة لجنة قيادة الرضوان وأبرز قادتها،، ثمّ قائد منظومة الصواريخ ابراهيم قبيسي، ثم قائد وحدة المسيرات محمد سرور، تلاهم علي كركي قائد الجبهة الجنوبية وعضو المجلس الجهادي ومهندس الاستراتيجيات العسكرية في الحزب الذي استهدفته اسرائيل بغارة جوية على حي ماضي نجا منها يوم ٢٣ ايلول ثم اغتيل في ٢٧ ايلول مع الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله، الذي شكّل استشهاده ضربة تدميرية كبيرة لم يصدّقها العالم وبقي الشك في نفوس كثر وكأنّ الخبر مفبرك أو أنّ العملية لم تنجح رغم تأكيد بيان رسمي من حزب الله استشهاده وقيام ايران بمأتم حزن على رحيله.
لم تتوقف عمليات اسرائيل فاستمرت السبحة باغتيال الشيخ نبيل قاووق نائب رئيس المجلس التنفيذي وقائد وحدة الأمن الوقائي في الحزب يوم ٢٩ ايلول، وصولاً لاغتيال السيد هاشم صفي الدين الذي بقي ٣ اسابيع تحت الردم دون القدرة على انتشال جثمانه بسبب تهديدات الطيران الحربي الاسرائيلي وغاراته وقتله لسائق احدى الجرافات التي حاولت ازاحة الردم. السيد هاشم صفي الدين كان المرشح الابرز لاستلام منصب الامين العام لحزب الله وتجمعه صلة القربى العائلية بالأمين العام السابق الشهيد حسن نصرالله، وهكذا قضت اسرائيل على خليفة نصرالله المحتمل، وخليفة خليفته (نائب رئيس المجلس التنفيذي) خلال أيام قليلة متتالية. واستمرت عمليات الاغتيال من قبل العدو الإسرائيلي للقادة العسكريين والميدانيين، في لبنان وسوريا.
في الاول من تشرين الاول، وبعد عملية التصفية الجماعية لقيادات الصف الاول والثاني العسكرية والأمنية في حزب الله ولآخرين من القيادات الميدانية، قرر نتنياهو القيام بعملية توغل بري في الجنوب اللبناني، تحت شعار "تطهير" الجنوب من مجاهدي حزب الله ومنع اطلاق الصواريخ وعودة المستوطنين الى بيوتهم دون أي خطر على حياتهم.
لم تكتف اسرائيل بكل ما أقدمت عليه جواً من دمار كبير وعمليات اغتيال وتصفيات للقيادات، بل قررت استكمال عملها براً تحت حجة انهاء اطلاق الصواريخ على المستوطنات وعودة المستوطنين.
طبعاً، أثبت حزب الله متانة وقدرات عسكرية ميدانية قوية في الدفاع البري، مع عمليات اطلاق الصواريخ التي استمرت من دون توقّف، وإرسال المسيّرات والقيام بعمليات أمنية وعسكرية، رغم كل الضربات الموجعة التي تلقّاها ورغم انكساره باغتيال قيادييه. برهن حزب الله عن قدرات عسكرية مهمة براً اذ لم يستسلم ولم يسلّم بسهولة، وجعل من عملية الاجتياح البري صعبة على اسرائيل وأثبت مقاومة رادعة براً بقدرات عالية.
تنفّس مناصرو حزب الله الصعداء مع أخبار انجازات المقاومة البرية، على رغم أنّ البلاد تتعرض لأبشع عمليات التدمير الممنهج عبر الطائرات الحربية الاسرائيلية دون أي رادع. فأصبح الدمار عنوان الأخبار اليومية المتنقلة من الجنوب الى البقاع فالضاحية الجنوبية، مع غارات تدميرية لحقت ببيروت الكبرى وأيطو (قضاء زغرتا) وديربلا شمال لبنان والمعيصرة الكسروانية وجرود جبيل ومناطق مختلفة بحجّة استهداف عناصر من حزب الله.
دخلت اسرائيل المناطق الجنوبية الحدودية براً، وقامت بتلغيم البلدات وتدميرها بشكل كامل، وأكملت جواً على المدن التاريخية والتراثية الكبرى كبعلبك وصور، وأسواق النبطية وحارة صيدا، مع موعد يومي ليلي لقصف الضاحية الجنوبية ومحيط مطار بيروت وسقوط البنايات بشكل مرعب أمام شاشات التلفزيونات والهواتف التي رصدت العمليات في كل ليلة وأظهرت الوحشية غير المسبوقة في التدمير والنار.
صحيح أن مستوطني شمال اسرائيل لا يزالون مختبئين في الملاجىء المجهّزة، الا أنّ أكثر من مليون و٢٠٠ الف لبناني من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية نزحوا الى النصف الآخر من لبنان، بين بيوت مستأجرة وصفوف المدارس الرسمية وملاعب مكشوفة بدون سقف وحدائق عامة وأرصفة الطرقات التي افترشها النازحون لأنهم لم يجدوا لهم مأوى.
عانى ويعاني قسم كبير من اللبنانيين معاناة لا يمكن وصفها، فالوضع الانساني الذي تعرّضوا له كارثي وأصعب من كل ما مروا به في الحروب السابقة وآخرها حرب تموز عام ٢٠٠٦. احتضن أهالي الشمال وجبيل وكسروان والمتن وبعبدا وزحلة ودير الاحمر وبيروت إخوانهم في الوطن دون حسبان للخلافات السياسية الكبيرة ومسؤولية فريق استفرد بقرار الحرب عما وصلت اليه الامور، فأصبح النزوح عبئاً كبيراً على كل المجتمع، على المضيفين والنازحين معاً؛ فلا قدرة على البقاء لوقت طويل بالأوضاع المعيشية التي يمر بها النازحون دون وظائف وأعمال ودون بيوتهم التي كانت تأويهم ومنتظرين وجبات الطعام المقدمة كمساعدات مع فرشات وأغطية ولحف وحرامات، لا يمكن أن تكون وسائل عيش كافية لفترة طويلة اذا امتدت الحرب، خاصةً مع اقتراب فصل الشتاء وكل ما يعنيه هذا الفصل من برد قارس والحاجة للتدفئة والحماية من العواصف وضعف البنى التحتية وعدم وجود مؤهلات للحياة بطريقة لائقة.
وبالتالي فإن صمود المجاهدين في البر تقابله معاناة كبيرة في النزوح والدمار وحمّام الدم اليومي، واستشهاد أكثر من ٣٠٠٠ مدني حتى يومنا هذا بالاضافة الى الجرحى والمصابين.
لا شك أن الصمود في المعركة البرية انجاز عسكري لكن هل هو كافٍ لمعايير الانتصار الذي يسوّق له الحزب ومناصروه؟ هنا بعض الأسئلة المطروحة للنقاش من منطلق إيجابي وعلمي ووطني.
هل ينتصر لبنان حين تنتهي الحرب بسحل غزة بشكل كامل، غزة التي دخل حزب الله بحرب اسناد لها، وباستعادة اسرائيل لأسراها عبر عملية تبادل ستتم بعد قتل وتهجير مئات الاف الفلسطينيين؟ هل ينتصر لبنان بعودة المستوطنين الى شمال اسرائيل بعد وقف اطلاق النار، الذي أصبح مطلب الدولة اللبنانية والمفاوض بإسم حزب الله، رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري؟ هل ينتصر لبنان بعدم قدرة النازحين الى العودة لقراهم وبيوتهم المدمرة بشكل كامل والتي يحتاج اعادة اعمارها لسنوات بالاضافة للحاجة المالية للاعمار التي ستكون عبر "الشحادة"؟ هل ينتصر لبنان حين تنتهي الحرب بوقف لاطلاق النار دون استرجاع الاراضي اللبنانية المحتلة، ومن دون تحرير القدس؟ هل ينتصر لبنان مع خسارة قائد تاريخي لحزب الله ولامتداد اقليمي كبير، هو السيد حسن نصرالله الذي سقط شهيداً مع كثر من القادة العسكريين والأمنيين؟ هل ينتصر لبنان بخسارته لقوة الردع التي كان يتغنى بها لسنوات طويلة وأصبحت محصورة بحاجز برّي يعيق دخول العدو البري بسهولة، لا نعلم الى متى، ولا يعيق الاحتلال الجوّي الذي يدمّر البلاد ولا يفرّق بين اهداف عسكرية ومدنية وتراثية وسياحية؟ هل ينتصر لبنان بمقاومة لم تستطع حمايته من الاعتداءات الاسرائيلي التي دمّرته دماراً غير مسبوق؟ هل ينتصر لبنان بالعودة الى تنفيذ القرار ١٧٠١ مع بنود اضافية تضمن حزاماً أمنياً لاسرائيل في الجنوب اللبناني بأشكال مختلفة يبعد عنها أي امكانية توغل بري في المستقبل، وتراجع عسكري لحزب الله الى ما وراء الليطاني مع ضمانات تنفيذية لا شكلية كما كان الحال قبل هذه الحرب؟
هل أصبح الحاجز البري المانع للاجتياح البري الكامل، هو معيار النصر فقط لا غير، رغم الاجتياح الجوّي والبحري، ورغم النزوح والظروف الكارثية التي يعيشها النازحون، والدمار الهائل وحمّام الدم الذي لا يتوقّف؟ أهذا هو الانتصار المنشود الذي ننتظره بعد انتهاء الحرب؟ حتى أنّ من يتكلم في شكل عقلاني وهادف عن المعاناة والخسائر والضحايا التي يمر بها اللبنانيون أصبح يتعرض للتخوين والتصويب عليه وكأنه لا يجوز الحديث سوى بالنصر المنشود.
إن النصر يكون حين يصبح لبنان ذات سيادة كاملة لا أحد يقرر عنه متى يخوض الحرب ومتى لا يخوضها؛ النصر يكون ببناء دولة قوية قادرة وجيش مسلح في شكل جيد لا بإضعاف الدولة ومساءلتها عند الحاجة لها في الأزمات؛ النصر يكون باستراتيجيةٍ دفاعية يتفق عليها جميع اللبنانيين بعضهم البعض وتؤسِّس لمرحلة جديدة فيها حماية لبنان، كل لبنان، براً وبحراً وجواً، ليكون لبنان كل لبنان صفاً واحداً معنياً بأي اعتداء مقبل من العدو الاسرائيلي. النصر يكون بالسعي للسلام العادل والشامل الذي يعيد الحقوق ويحفظ أمن البلاد ويحصّننا من أي أطماع، وبالدولة القوية القادرة على استيعاب الأزمات وإنشاء بنى تحتية قوية وإقتصاد قوي ومنتج لمقاومة أي حصار اقتصادي ومالي من خلال المناعة الذاتية. عندها فقط يكون الانتصار ويعود النازحون الى قراهم مطمئنين بأنهم لن يكونوا بموقف مماثل عند أي مغامرة او اجتهاد أو قرار يخص دولاً أخرى ومصالحها في المنطقة.