جوزف القصيفي نقيب محرري الصحافة -
عندما تصفّحت كتاب الباحث السياسي والديبلوماسي، والمستعرب تيغران يغافيان «أقليات الشرق- المنسيّون من التاريخ» الصادر عن دار «روشيه»، قَفَزتْ إلى ذاكرتي صور مآس ترقى إلى زمن غير بعيد، إلى العام 2003، عندما أسقط الغزو الأميركي للعراق نظام صدام حسين، وحلّ جيش هذا البلد، واستصدر قانون «إجتثاث البعث»، فملأت الفراغ مستفيدة من حال الفوضى التي سادت، مجموعة من التنظيمات الأصولية التي تقنّعت زوراً بالإسلام التي قادت حروب إبادة في حق الأقليات المسيحية والأزيدية، والصابئة، ولم يوفر بطشها الشيعة والسنّة.
ويمكن القول إنّ هذا الغزو وما رسا عليه من نتائج، قضى على التنوع الذي تميّز به المجتمع العراقي منذ نشأته كياناً ودولة. وتقف بلاد الرافدين حتى الساعة على خط التماس الدولي ـ الإقليمي، محاولة دفع العواصف العاتية عنها. وفي سوريا ومنذ انطلاق شرارة ما اتفق الغرب على تسميته «ثورة» في العام 2011، بدا واضحاً أنّ المعارضة السياسية ذات الوجه العلماني المتنوّع، انكفأت لمصلحة «الإخوان المسلمين» ومن ثم المجموعات المسلحة ذات المنحى التكفيري. وقد دفع المسيحيون وسائر الأقليات في هذا البلد أثماناً باهظة. وفي هذين البلدين كان لـ» داعش» اليد العليا قبل أن يتمّ التصدّي لها عبر مجموعات إسلامية مدعومة من الغرب، ولا سيما منه الولايات المتحدة التي استغلت تنظيم «الدولة الاسلامية» وبقية التنظيمات لتغيير الأوضاع على الارض وفرض وقائع جديدة. واليوم، وإن كان المحللون يُدرجون ما يحصل في سوريا في خانة الضغط السياسي لحمل الرئيس بشار الاسد على القبول بدفتر شروط سياسي يتصل بارتباطات نظامه الدولية والاقليمية، وإشراك معارضيه في السلطة، أو الدفع في اتجاه تقسيم سوريا، فإنّ النتيجة نفسها بالنسبة إلى الأقليات، ولا سيما منها الطوائف المسيحية التي لها حضورها وتاريخها في هذا البلد، وهو تاريخ يمتد إلى بدايات بزوغ فجر المسيحية. وإنّ التقارير الواردة من سوريا تفيد أنّ المسيحيين يعيشون حالة غير مسبوقة من القلق، على رغم من محاولة القوى المعارضة للنظام التي احتلت حلب، الحرص على طمأنتهم - ما أمكن- وإعطائهم «ألامان». ولا يبدو أنّ الغرب آبه لمخاوف الأقليات، ولا سيما منها المسيحية.
وينقل بطاركة مشرقيون وأعضاء في مجلس كنائس الشرق الاوسط، كيف كانت نتائج إجتماعاتهم مخيبة مع رؤساء ومسؤولين فاعلين في عدد من عواصم القرار، التي لم تنظر إلى مخاوف هؤلاء بما يقتضي من اهتمام، بل على العكس من ذلك. وسمع بعض البطاركة في بداية الأحداث السورية كلاماً من رئيس سابق في دولة أوروبية بأنّ الوسيلة الأفضل لـ» حفظ رؤوسكم» أن تنضمّوا إلى المعارضة المسلحة». كان ذلك في العام 2011. وتقول مصادر كنسية إنّ ثمة دولاً غربية فتحت أبواب الهجرة أمام المسيحيين العراقيين والسوريين، وهي تُصنّف في عداد بلدان «الهجرة الدائمة» التي يصعب على من ارتحل إليها أن يعود إلى وطنه الام. وبطبيعة الحال، فإنّ لبنان سيكون محطة موقتة لهؤلاء قبل الانتقال إلى ما يصح تسميته الوطن الرديف. وذلك لاستحالة تجنيس الهاربين والساعين إلى ملاذ آمن في هذا البلد الذي ينوء بمشكلاته وتحدّياته الوجودية وتعقيداته السياسية.
وحده الفاتيكان من بين المرجعيات الدولية من يهتم بأوضاع المسيحيين في الشرق عموماً ولبنان خصوصاً. وانطلاقاً من اهتمامه هذا كانت زيارته للعراق ولقاء من تبقّى من مسيحييه في نينوى في العام 2021. وكذلك حرصه على عدم إغلاق سفارة الكرسي الرسولي في دمشق وتعيينه سفيراً باباوياً برتبة كاردينال لا مونسنيور، كما درجت العادة بالنسبة إلى القصادات الرسولية في العالم.
ويقول مرجع روحي بارز إنّ هجرة المسيحيين لا تقتصر على البلدين المشار اليهما، لافتاً إلى تناقص أكثر من دراماتيكي في أعداد المسيحيين في فلسطين المحتلة نتيجة المضايقات الإسرائيلية المتمادية، واعتداءاتها على أوقاف كنائسهم ومحاولة المساس بمقدساتهم في القدس وبيت لحم، والمدّ الإسلاموي وبعض مظاهر التطرف، وهذا ما يهدّد فعلاً بجعل ديار هؤلاء فارغة الاّ من الأديرة والكنائس والمطارح المقدسة، ومجرد معالم سياحية. كل ذلك في منطقة كانت منطلقاً للرسالة المسيحية، والتي شهدت ولادة السيد المسيح وحياته وصلبه وموته وقيامته.
في أي حال، يرى محللون ثقات أنّ الاحداث الخطيرة التي تعصف بالمنطقة منذ «طوفان الأقصى» في غزة، والحرب الإسرائيلية على القطاع التي اتخذت الطابع الإبادي لشعب، وحرب «الإسناد» وما استتبعته من استقدام تنفيذ خطة كانت قد اعدّتها الدولة العبرية ضدّ لبنان منذ العام 2006 بعد إخفاقها في حرب تموز، يُضاف إليها ما يحصل في «الضفة الغربية» الذي لا يلقى اهتماماً إعلامياً يوازي خطورة ما يحصل على ارضها، وحالياً ما يمثل فصولاً على ارض سوريا، يضع المنطقة بأسرها في مهبّ التحولات والتغييرات التي قد تتجاوز الخرائط السياسية إلى الخرائط الجغرافية لدول الشرق، من دون أي إلتفات إلى مصير شعوبها، ولا سيما منها أقلياتها المنسية من التاريخ الذي يكتبه الأقوياء، ولو على ركام الحقائق.