في عالم السّياسة والحروب، لا تكفي العناوين الكبرى لتفسير الوقائع، إذ كثيرًا ما تكون الشّعارات مجرد ستار يخفي وراءه ممارسات تُناقض جوهرها.
ينطبق هذا تمامًا على ما يُسمّى “إتفاق وقف إطلاق النار”، الذي يهدف في ظاهره إلى إنهاء القتال، لكنّه في مضمونه ليس إلّا اتّفاقًا على استمرار الحرب بأشكال أخرى. فلم يوقف العدو تعدّياته، وها هو يستكمل عمليّة التّطهير عبر تفجير المنازل والقرى بشكل شبه يومي، حتى باتت هذه الخروقات المستمرة جزءًا من الرّوتين اليومي لسكّان المناطق المنكوبة.
ستون يومًا مرّت، لم تتوقف خلالها المعارك الفعليّة بالرّغم من توقيع الإتفاق، بل استمرّت بطريقة مختلفة. لقد استمرّت جذوة الصّراع مشتعلة وذلك للحفاظ على التّوازنات الّتي يريدها بعض اللّاعبين الإقليميّين والدّوليّين الّذين يحاولون ردّ اعتبارهم بعد فشلهم في صراعات دوليّة أُخرى بنجاحات يحاولون رسمها في لبنان.
ورغم وضوح الصّورة، تمّ التّمديد لهذا الاتفاق مرتّين، والأمر يتّجه نحو الزّيادة، وكأنّ التّجربة المريرة لم تكن كافية لإثبات أنّه مجرّد خدعة دبلوماسيّة تمنح الحرب غطاءً قانونيًا، بينما تستمر مأساة النّاس والتّعدّي على الأرض بلا هوادة.
وسط هذا المشهد المعقّد، يبرز خطاب غوغائيّ يمارس أصحابه دور الضّحيّة، متباكين على ما آلت إليه الأوضاع، بينما يوزّعون الاتّهامات يمينًا ويسارًا، متناسين أنّ المشكلة ليست مع الأطراف الّتي تتقاسم السّلطة معهم، إن كان عبر إنتخاب رئيس للجمهوريّة أو عند تسمية رئيس الحكومة الجديدة والإصرار على حصّة الأسد لا سيما وزارة الماليّة، لكن مع من وافق ووقّع على هذا الاتفاق وأضفى عليه شرعيّة وهميّة.
هذا الإنفصام في المواقف يفضح تلاعب بعض القوى، الّتي تشارك في صناعة القرار من جهة، ثمّ تتنصّل من تبعاته من جهة أخرى، وكأنّها لم تكن شريكة في صياغته.
من السّذاجة أن يعتقد البعض أنّ اتّفاقات تُبرم بهذه الطريقة يمكن أن تحقّق السّلام، بينما هي في الحقيقة مجرّد إعادة ترتيب لساحات القتال. ومن النّفاق السّياسي أن تُنقل المعركة من الغرف المغلقة إلى الشّارع، حيث يتبارى البعض في رفع الصّوت وإثارة الغبار، في محاولة لصرف الأنظار عن الحقيقة الواضحة وهي أنّه: من وقّع الاتّفاق هو من يتحمّل مسؤوليّته، وليس من كان شريكًا في تقاسم الحصص.
في النّهاية، لا يمكن بناء سلام حقيقيّ على إتّفاقات تحمل في طيّاتها بذور الحرب، ولا يمكن لأيّ طرف أن يتبرّأ من مسؤوليّته لمجرّد أنّه يرفع الصّوت عاليًا.
آن الأوان لمن يمارسون الغوغائيّة أن يتصالحوا مع أنفسهم، وأن يعترفوا بأنّ المشهد الحالي هو نتيجة خياراتهم، وليس نتيجة مؤامرات خارجيّة أو خيانات داخليّة فقط كما يدّعون. الحقيقة واضحة، ومن يهرب منها اليوم، سيجدها تلاحقه غدًا.