أنطوان الأسمر -
تراكم الإدارة الرئاسية الأميركية مكاسبها السياسية والأمنية اللبنانية منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في 26 تشرين الثاني 2024. وهي تتوزّع على أكثر من مستوى:
1-تثبيت المعادلة الأمنية من خلال وقف إطلاق النار. وهذا مكّنها من فرض معادلة تهدئة تُقيّد قدرة حزب الله على التصعيد العسكري، مما يعزز الاستقرار الذي تريده إسرائيل.
2-تعزيز الضغط السياسي والاقتصادي، بحيث نجحت تحت وطأة الأزمة الاقتصادية في إعادة تموضع بعض القوى السياسية وضبط أي محاولات لتغيير التوازنات الداخلية لمصلحة محور المقاومة.
3-تحريك ملف الترسيم البري، وهي تطمح إلى أن يكون النجاح الثاني بعد إنجاز ترسيم الحدود البحرية، بما يخدم الرؤية الأميركية، ويضع ضغوطاً إضافية على حزب الله.
4-استثمار العقوبات أداة ضغط بما يتيح لواشنطن تهديد حلفاء الحزب بمزيد منها، تمهيدا لتعزيز البيئة السياسية الأكثر انسجاماً مع التوجّه الأميركي.
5-توسعة دور الجيش اللبناني عبر مواصلة دعمه وتقديم المساعدات العسكرية والمالية لضمان بقائه متماسك يلعب دوراً رئيسياً في ضبط الوضع الأمني في سياق عمله على تطبيق القرار 1701 ومندرجات وقف إطلاق النار. ويشمل دور الجيش سلاح الحزب، وإن ترتبط مقاربته بالقرار السياسي لا العسكري.
ولا ريب أن الإدارة الأميركية لا تفوتها ضرورة توظيف تلك المكاسب عبر:
أ-فرض معادلة سياسية جديدة مرّت حكما بتشكيل حكومة أكثر انسجاماً مع مصالحها، في موازاة تعطيل صعود شخصيات مناوئة.
ب-تقويض نفوذ حزب الله تدريجا، سواء عبر التضييق المالي، أو الحدّ من شرعيته السياسية، أو لتقديم مطلب ضرورة نزع سلاحه مقابل تحقيق مكاسب اقتصادية للبنان.
ج-تعزيز دور الأمم المتحدة في الجنوب عبر توسيع صلاحيات اليونيفيل وإعطائها هامشاً أكبر لمراقبة تحركات الحزب وتفكيك بناه التحتية، مما يعزّز الواقع الجديد عند الحدود.
يرتبط نجاح الإدارة الأميركية في توظيف مكاسبها بميزان القوى الداخلي وقدرة الأطراف الأخرى على المناورة. ويتوقّف على عوامل عدة، كقدرة حزب الله ومحور المقاومة على امتصاص الضغوط والتأقلم معها، والموقف الفرنسي ومدى استعداده للتماهي مع الأجندة الأميركية في لبنان، إلى جانب موقف الدول العربية، وخصوصاً المملكة العربية السعودية بما تملك من تأثير وازن في المجريات اللبنانية.
ويبقى الأهم لواشنطن أن يؤدي تثمير تلك المكاسب إلى نقل توجهها التسووي- السلمي في المنطقة (الإبراهيمية السياسية) إلى لبنان، طالما بقيت معنية بالانخراط فيه وفي مشاكله. وهي صار في إمكانها استثمار معادلة التهدئة التي فرضتها في الجنوب كخطوة تمهيدية لإجراء محادثات غير مباشرة برعاية أممية وأميركية من باب التسوية الحدودية البرية ما قد يشكّل خطوة في اتجاه تفاهمات أمنية طويلة الأمد بين لبنان وإسرائيل، واستخدام الترسيم أداة سياسية لجرّ لبنان إلى اتفاقات تفرض قيودا إضافية على الحزب وتهدم نفوذه العسكري وتقلّص نفوذه السياسي.
ولا يخفى أن الأزمة الاقتصادية والمالية هي أحد الأسلحة الاميركية لإقناع الطبقة السياسية بأن أي حلّ مستقبلي يتطلّب إنهاء حال العداء مع إسرائيل، مقابل دعم مالي أميركي وخليجي، بالتزامن مع تقديم وعود بمشاريع استثمارية وتنموية في الجنوب كجزء من صفقة تشمل ترتيبات أمنية مع إسرائي، إلى جانب ربط زيادة الدعم الدولي للبنان بقبول ترتيبات أمنية جديدة عند الحدود.
وتدرك واشنطن أن تحقيق التسوية السلمية دونه عقبات، في مقدمها عدم قدرة القوى السياسية الحليفة على المجاهرة بفكرة السلام خشية ردود فعل داخلية مخوِّنة. كما أن مسار السلام يتطلب تحييد حزب الله، وهو أمر بالغ الصعوبة من دون تغييرات إقليمية كبر، وتحديدا عند الراعي الإيراني. كما أن غياب توافق عربي شامل، وتحديدا التردد السعودي في ركوب قطار الإبراهيمية السياسية، يُبقيان لبنان في أسفل قائمة الدول العربية الراغبة في التسوية. ولا يُغفل كذلك أن تل أبيب غير مستعدة لدفع ثمن لتسهيل التسوية مع لبنان وتسهيل تسويقه داخليا، مثل الانسحاب من مزارع شبعا،علما أن ثمة من يجزم بعدم جهوزية إسرائيل إلى أي سلام مع لبنان ارتكازا على مجتمعها الغائر في التصلّب والتزمّت. هو يريد أرضا محروقة وتوسعا توراتيا، ووصل به الأمر حدّ مهاجمة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لمجرّد طرحه التفاوض مع لبنان على الحدود والنقاط الخمس، كواحد من الخيارات المتاحة.
لذا الأرجح أن تصرف واشنطن النظر عن فرض اتفاق سلام مباشر، لمصلحة إرساء تفاهمات أمنية واقتصادية تدريجية تُقرّب لبنان من دائرة التسوية على المدى البعيد، مع إبقاء ورقة السلام الشامل هدفا استراتيجيا مستقبليا.