الأخبار: رضوان مرتضى-
يُغادر العميد خالد حمود رئاسة شعبة المعلومات بعد 25 عاماً، نجح خلالها في بناء مجد الشعبة وتحويلها إلى أكثر الأجهزة الأمنية اللبنانية احترافاً واحتراماً، حتى سادت مقولة: «لكل جريمة معقّدة، شعبة المعلومات». أُزيح حمود عن منصبه بعدما حقّق مع بضعة ضباط إنجازات أمنية كبرى، من مكافحة الإرهاب والتجسس وعملاء إسرائيل إلى مكافحة المخدّرات وعشرات جرائم القتل والخطف والفساد، وتمكّن في مرات كثيرة من إحباط عمليات كان يُراد منها إحداث فتن كبرى في فترات كان التوتر المذهبي خلالها على أشدّه. لم يجامل طرفاً سياسياً حتى من كان يُحسب عليهم، ولم يتحامل على طرف ولو كان محسوباً ضده، ولم يُساوِم يوماً في أيّ من الملفات
لا يُشبه خالد حمود (57 عاماً) غيره من الضبّاط. قِلّةٌ كانت تعرف شكل الضابط ابن البيت الناصري الهوى، وابن بلدة بكة في البقاع الغربي ومن سكان سعدنايل في البقاع الأوسط، قبل تعيينه رئيساً لشعبة المعلومات.
قبلها كان ظِلّاً لا يُعرف منه سوى اسمه، لكنه كان «دينامو» الشعبة منذ تحوّلها إلى قوّةٍ أمنية ضاربة.
لدى حمود عقل أمني وشغف بعالم الأمن، لا يتوافران لكثير من الضباط الذين يتصرّفون كموظفين. شغف دفعه إلى تنفيذ عملية عسكرية «على الطريقة الروسية»، في قضية خلية كفتون، شارك فيها 40 ضابطاً من دون عناصر.
الأمن لعبته، ويمارسه كهواية تأخذ كل وقته، ويستمتع بتفكيك الأحاجي ولا يستسلم قبل أن يجد جواباً لأيّ لغز غامض.
لا صورة له في مطعم أو مقهى أو مناسبة اجتماعية، إذ لا حياة اجتماعية له أصلاً، ويكاد يشعر بالغربة بعيداً عن ضبّاطه، وعن مكتبه الذي قضى فيه أكثر من نصف عمره، غارقاً بين ملفات التحقيق، والذي نقل إليه ملابسه واحتياجاته الشخصية.
لا تفوته صغيرة ولا كبيرة، مع قدرة خاصة على متابعة أدقّ التفاصيل، وثقافة واسعة في مجالات متعددة، وقدرة استثنائية على الربط والتحليل، وحسّ دعابة وقدرة على التهكّم حتى في أصعب الظروف. ولهذا لا يستسيغه معظم قادة الأجهزة الأمنية، لتفوّقه عليهم بعدما كرّس نفسه للعمل الأمني متخلّياً عن مغريات كثيرة.
تُسجّل لحمّود جرأته في مكافحة شبكات التجسس والعملاء أمام ما بدا أنه «قرارٌ» بتجنّب هذا الملف
تولّى حمود رئاسة الشعبة عام 2017 بعدما كان قد تدرّج فيها منذ عام 2002. قدرته على كشف العديد من الملفات مع عدد من الضباط منحته حظوة خاصة لدى رئيس الشعبة آنذاك. أول الملفات التي عمل عليها كان سلسلة تفجيرات طاولت مطاعم أميركية في لبنان، قبل أن يلمع نجمه في التحقيقات التي أجرتها الشعبة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكانت الأساس الذي ارتكزت عليه لجنة التحقيق الدولية.
تصادف مغادرة حمود مركزه مع توقيف القاضي عماد ز. الذي ورد اسمه في ملف فساد قضائي فتحته الشعبة. وهو واحدٌ من مئات الملفات التي لم يكن لأي من الأجهزة الأمنية أو الضباط الجرأة على مقاربتها.
غالبية هذه الملفات كان قرار الخوض فيها شخصيّاً اتّخذه حمود وحارب وحورب من أجله. في هذا الملف، كان طرف الخيط تاجر مخدّرات أوقفته «المعلومات»، إلا أن القاضي أطلق سراحه. فتّش ضباط الشعبة كثيراً إلى أن أوقعوا بالتاجر مجدّداً. أُعيد إلى السجن ومعه أربعة سماسرة كشفت هواتفهم فضائح بالجملة، وفتحت القضية الباب واسعاً أمام حملة لتطهير الجسم القضائي...
لكن ذلك لم يحصل بسبب الحمايات السياسية. قدّمت الشعبة إلى القضاء أسماء 58 قاضياً و130 محامياً و200 كاتب ومساعد قضائي وخمسة كتّاب عدل وأطباء شرعيين، تورّطوا جميعاً في ملفات الفساد بنسبٍ متفاوتة، إضافة إلى ضبّاط من كل الأجهزة الأمنية تمّ إعلام قياداتهم بارتكاباتهم. المفارقة أنّ أحداً من كل هؤلاء لم يُحاسب، باستثناء ضباط قوى الأمن، من بينهم ضابط في شعبة المعلومات نفسها، إضافة إلى إقفال مخفر المعلقة (زحلة) وتوقيف 21 عسكرياً فيه ثبت تقاضيهم رشى وتورّطهم في عمليات ابتزاز.
أحبطت الشعبة محاولات عدة لضرب السلم الأهلي وإثارة الفتنة السنية - الشيعية، خلال فترة تميّزت بتوتر مذهبي شديد، من بينها خطة أعدّها إمام مسجد مجدل عنجر للاختفاء واتهام حزب الله بخطفه، والكشف سريعاً عن تورط رئيس بلدية القرقف العكارية في اغتيال إمام البلدة الذي كان من المناهضين للحزب، ما وجّه أصابع الاتهام إلى الأخير.
وتُسجّل لخالد حمّود جرأته في مكافحة شبكات التجسس والتعامل مع العدو الإسرائيلي. ففي مقابل ما بدا أنه «قرارٌ» بتجنّب هذا الملف، وبالتوازي مع الأحكام المخفّفة التي كانت تُصدرها المحكمة العسكرية على العملاء، أوقفت شعبة المعلومات أكثر من 300 شبكة تجسس خلال بضع سنوات فقط. وهذا ما دفع العدو الإسرائيلي إلى محاولة اختراق الحلقة الضيقة لحمود لتجنيد والد أحد العناصر الذين يعملون لديه.
كما ذاع صيت الشعبة في ملف مكافحة الإرهاب. وثبّتت اسمها في مجال الأمن الاستباقي. فأحبطت عشرات العمليات الإرهابية قبل تنفيذها، وأوقفت معظم المتورّطين في تفجيرات إرهابية في الداخل اللبناني.
وبرزت الشعبة في تحقيقات انفجار مرفأ بيروت بإشراف المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار الذي شهد على براعة المحقّقين ودقّتهم. فقد أنجز هؤلاء تحقيقاً من 800 صفحة مع 9 آلاف رابط للتوسّع والشرح في كل نقطة. ويتردّد أنّ هذا الملف هو وراء قرار الإطاحة بحمود، إذ كشفت تحقيقات «المعلومات» مسؤولية ضباط من الجيش في الإهمال الذي تسبّب بالانفجار، وزوّد محقّقو الشعبة المحقّق العدلي بمستندات تؤكّد تبلّغ قيادة الجيش أيام العماد جوزيف عون ببرقية حول وجود النيترات في المرفأ من دون أن تحرّك ساكناً.
كما كشفت «المعلومات» جريمة فبركة ملف تعامل مع العدو للممثّل المسرحي زياد عيتاني، إذ فضحت تورّط الضابط سوزان الحاج والقرصان الإلكتروني إيلي غبش في فبركة أدلة لعيتاني انتقاماً منه بعد نشره تغريدة ضد الحاج على «تويتر». إلا أن الضغوط السياسية حالت دون عقابٍ عادل، رغم أن الأدلة التقنية التي عثرت عليها شعبة المعلومات تثبت المحادثات بين الحاج وغبش. ورغم الضغوط السياسية الهائلة، لم تتمكن محكمة التمييز من تبرئتها بالكامل، كما أن المحكمة العسكرية لم تحاكمها بكل التهم الموجّهة إليها.
لم يسمح حمود بتغلغل الفساد والمحسوبيات داخل الشعبة أسوة بأجهزة أمنية أخرى
ملفات بالجملة خاضت فيها الشعبة وتركت بصمات نجاح واضحة عليها، من خطف الأستونيين والتشيكيين إلى احتكار البنزين والمازوت، مروراً بتفاصيل حادثة قبرشمون، وصولاً إلى ملف فساد النافعة الذي أدّى إلى توقيف معظم الموظفين والمسؤولين وإقفال مصلحة تسجيل السيارات، وملف الفساد في وزارة التربية.
وفي هذا الملف الأخير، لم يرض حمود أن يقتصر الحساب على صغار الموظفين، ولم يراعِ أن المسؤولة عنه، رئيسة دائرة الامتحانات أمل شعبان التي تمّ توقيفها، محسوبة على تيار المستقبل، ووصل به الأمر إلى حدّ أن دوّن في المحضر أنّ المدير العام لقوى الأمن الداخلي اتّصل للتوسّط من أجل شعبان وطلب وقف التحقيقات وإقفال الملف بشكل مخالف للقانون وإرساله إلى النائب العام المالي.
في فضيحة سرقة المساعدات المرضية التي كشفتها «المعلومات»، أوقف عشرات الضباط من قوى الأمن الداخلي ومئات العناصر، وفي ملف «ضبّاط الكيف» أثبتت الشعبة تورّط ضباط في حماية تجار المخدّرات واستخدام بعضهم آليات قوى الأمن الداخلي في نقلها. جميع هؤلاء ساقتهم شعبة المعلومات إلى السجن بقرار مباشر من خالد حمود. وفي ملف مكافحة الكبتاغون، ساهمت الشعبة في إحباط مئات عمليات التهريب، ونجحت في توقيف أحد أباطرة الكبتاغون المتورّط في تهريب مئة مليون حبة كبتاغون، وهي من أكبر كمية تُضبط قبل إدخالها إلى السعودية، ناهيك عن كشف عشرات الجرائم الجنائية بسرعة قياسية.
يمكن تخيّل حجم التدخلات السياسية لحماية المتورطين في ملفات كهذه، لكنّ خالد حمود لم يكن ليرضخ لأيٍّ منها. وتمكّن من الحفاظ على شعبة المعلومات وحمايتها رغم الضربات المزلزلة التي أصابتها، من اغتيال وسام الحسن ووسام عيد إلى الانهيار الاقتصادي والمطبات الأمنية والأهلية الكثيرة.
فبقيت الأنجح في مواجهة التحديات الأمنية المتنوّعة. كذلك تمكّن من ضبط ضباطه، فلم يسمح بتغلغل الفساد والمحسوبيات داخل الشعبة أسوة بأجهزة أمنية أخرى. ويُسجَّل له أنّه لم يسمح لأيِّ جهةٍ سياسية بالتدخل في عمله، ونجح في الحفاظ على توازنٍ دقيق داخلها، فقطع الطريق على السياسيين في تسمية ضباط، بما في ذلك طلبات «بيت الوسط» لتعيين ضباط في مراكز محددة، رغم العلاقة الخاصة التي تربطه بسعد الحريري.
كما وقف في وجه «عين التينة» منذ بداية تعيينه، رافضاً تعيين الضابط مصطفى بدران في رئاسة فرع الأمن القومي في الشعبة، متمسّكاً بالضابط الكفْء لديه المقدّم الراحل ربيع فقيه، وهو ما أدّى إلى حرمان قوى الأمن الداخلي من المخصصات المالية لمدة 11 شهراً كاملة. لكنه بقي متمسّكاً بخياره ولم يتزحزح حتى رُفِع الحظر في النهاية.
لم يكن سهلاً أبداً تجاوز حمود، ولهذا ربما اتُّخذ قرار إزاحته، وتدفيعه ثمن قرارات اتّخذها لمصلحة لبنان، لكنّها شكّلت تهديداً لـ «ولاة أمر» الدولة اليوم.
فيما يواجه خلفه، العميد محمود قبرصلي، تحدّياً كبيراً في الحفاظ على الشعبة وسمعتها ومتابعة عملها، حتى لا تكون الإطاحة بحمود إطاحة بالشعبة نفسها، وهو ما تشي به «مجزرة» المناقلات الأخيرة التي أزاحت أيضاً قائد القوّة الضاربة العميد خالد عليوان، الرجل الثاني في الشعبة.