لم يكن التدخين في لبنان يوماً للمترفين، ولم يؤثّر تبدّل الأسعار ولا غلاء المنتجات التبغية يوماً في الحدّ من أعداد المدخّنين، نظراً إلى «القنوات» المفتوحة غير الشرعية التي يمكن الحصول من خلالها على منتجات تبغية بأسعار مناسبة.
وحتى مع اندلاع الأزمة المالية الاقتصادية عام 2019، لم تتبدّل العادات، بدليل أن عدد المدخّنين في لبنان يتخطى المليون و200 ألف، بحسب دراسة أطلقتها منظمة الصحة العالمية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي برعاية وزارة الصحة، بعنوان «الجدوى الاقتصادية للاستثمار في مكافحة التبغ في لبنان».
اللافت أن هذه الآفة لا تنحصر بفئات معينة، بل تطاول معظم الفئات من البالغين إلى الأطفال، ومن الجنسين. وبحسب معطيات الدراسة واستناداً إلى آخر مسح أجري بين عامي 2016 و2017، بلغت نسبة البالغين المدخّنين (الذين تراوِح أعمارهم بين 18 و69 عاماً) 38%، يستهلك 82% منهم أكثر من 10 سجائر يومياً. ولامست نسبة الأطفال المدخّنين (بين 13 و15 عاماً) الـ36%، وهي نسبة عالية جداً لدى فئة يُفترض أن يكون التدخين محرّماً عليها.
ولا ينحصر التدخين بـ«المباشر»، إذ ثمة مدخّنون سلبيون من البالغين أيضاً، وبأعداد كبيرة تقدّرها الدراسة بـ44% مدخّنين سلبيين في العمل و39% في المنزل. وهؤلاء أيضاً يطاولهم الموت. وتفوق نسبة المدخّنين السلبيين لدى الأطفال ما هي عليه لدى البالغين، حيث يتعرّض ما يقرب من 7 من كل 10 للتدخين السلبي في منازلهم و6 من كل 10 للتدخين السلبي خارج المنزل.
ما الذي يمكن أن تحمله تلك النسب؟ في المقام الأول، يؤدّي انفلاش التدخين في المجتمع في تبعاته المباشرة إلى الموت.
وكلما زادت أعداد المدخّنين، زادت أعداد المقتولين به. وقد قارب عدد الوفيات في السنوات الأخيرة الـ9200 وفاة سنوياً، ما يمثّل أكثر من ربع الوفيات في لبنان! وتأتي وفيات أمراض القلب الإفقاري الناتجة عن التدخين في المرتبة الأولى بمعدّل 4577 وفاة بمرض القلب الإفقاري ومن ثم سرطان القصبة الهوائية والشعب الهوائية والرئة بمعدّل 1238 وفاة.
وما يزيد الهلع أن 43% من الوفيات تأتي في عمر مبكر، أي دون السبعين عاماً. وغالباً، لا تنتهي معاناة المدخّنين بالموت، إذ إن ما قبل هذه النهاية وما بعدها، ثمة أكلاف يدفعها المرضى وعائلاتهم، كما الدولة عبر صناديقها الضامنة إلى المستشفيات لقاء الرعاية الصحية التي غالباً ما تكون طويلة ومكلفة في الأمراض التي يسبّبها التدخين.
إلى تلك الكلفة، يضاف العبء الاقتصادي الذي يتسبّب به المرض، حيث «تنقل» المصاريف من الاحتياجات الأساسية من التعليم والغذاء إلى الصحة. وبمجمل هذه الأكلاف، بلغت نسبة الإنفاق - تقديرياً - على الرعاية الصحية، عام 2020 نحو 1.2 تريليون ليرة، أي ما يعادل 31 مليون دولار، دفع منها المرضى 410 مليارات ليرة، فيما أنفقت الدولة 576 مليار ليرة، و233 مليار ليرة القطاع الخاص.
ولا تتوقف الخسائر عند الرعاية بحد ذاتها، إذ ثمة خسائر أكثر قسوة، وهي خسائر الإنتاجية التي يتسبب بها غياب العامل عن عمله، والتي قُدّرت بحدود 38 مليون دولار، وإذا ما أضيف إلى تلك الخسائر ما ينجم عن الوفيات وتأثيرات التدخين على البيئة والمؤسسات، فإن لبنان يتكبّد من جراء المنتجات التبغية ما يقارب 140 مليون دولار سنوياً، أو ما يعادل 1.9% من إجمالي الناتج المحلي السنوي.
والأنكى من ذلك أن الخسائر الاقتصادية المنسوبة إلى التبغ تتخطى بـ13 مرة الإيرادات التي تجمعها الحكومة حالياً من فرض الضرائب على منتجات التبغ.... وأكثر من 48 ألف مرة من الإنفاق الحكومي الحالي على مكافحة التبغ.
يُذكر أن آخر إنفاق حكومي صُرف لمكافحة التبغ هو حوالى 30 ألف دولار عام 2007، ومنذ ذلك الوقت أو على الأقل في السنوات العشر الأخيرة لم يُصرف فلس واحد على خطة مكافحة التدخين، علماً أن لبنان من ضمن الدول التي التزمت في فترة سابقة باتفاقية منظمة الصحة العالمية الإطارية بشأن مكافحة التبغ، والتي نتج عنها عمل الدولة على صياغة قانون عصري لمكافحة التدخين هو القانون 174 الذي أُقرّ في عام 2012، وحدّ من التدخين في الأماكن العامة تحديداً، وحسّن من وضع لبنان عند تطبيقه، قبل أن يوضع على «الرفّ» لأسباب كثيرة، منها تراجع الاهتمام بهذا الموضوع بسبب الأزمات المتلاحقة وثانيها محاربة هذا القانون من قبل دوائر صناعة التبغ التي تمارس الضغوط حمايةً لمصالحها، كما تتدخل في صياغة السياسات التي تحول دون خسارتها هذه الأرباح.
فعلى سبيل المثال، سمح القانون 174 لوزارة الصحة ووزارة المالية بإصدار قرار يتضمن الصور في التحذيرات الصحية المطبوعة على المنتجات، ومع أن القرار صدر عام 2011، إلا أن الموافقة عليه بسبب تدخلات شركات التبغ تأخّرت حتى ما بعد عام 2017، أضف إلى ذلك أنه خلال جائحة كورونا، عملت هذه الشركات على رعاية بعض الأنشطة الإعلانية لتظهر مدى التزامها بالإسهام الإيجابي في المجتمع. أما السبب الآخر الذي يحول دون مكافحة التدخين، فيتعلّق بنشاطات التهريب حيث لا تملك إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية أيّ معلومات عن الكميات التي يتمّ تهريبها من المنتجات التبغية والتي تجعل هذه المنتجات متاحة بقوة في الأسواق وبأسعار زهيدة.
مع ذلك، تشير منظمة الصحة العالمية في دراستها إلى أن 6 تدابير أساسية تجنّب لبنان هذه الخسائر وأهمها زيادة الضرائب على منتجات التبغ، حظر التدخين في الأماكن العامة وأماكن العمل، وضع تحذيرات صحية على منتجات التبغ توضح الأضرار، تعزيز الوعي العام بمكافحة التبغ، بما في ذلك التوعية من المخاطر الصحية وتعزيز الإقلاع عن تعاطي التبغ وعلاج إدمانه عبر تدريب العاملين في مهن الرعاية الصحية.