ألقى رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل محاضرة من تنظيم الأكاديمية الدبلوماسية
المجرية تحت عنوان "مفترق الطرق: أي دور للمسيحيين في تشكيل مستقبل الشرق الأوسط؟"، وذلك خلال زيارته لهنغاريا الإثنين 31 آذار 2025، هنا نصها الكامل.
يشرفني أن أخاطب هذا الجمهور الكريم، وأشكر المنظمين على دعوتي لحضور هذه المحاضرة. يسعدني دائمًا أن أزور المجر، البلد الذي بنيتُ فيه علاقات متينة مبنية على قيمنا المسيحية والانسانية المشتركة، بفضل صديقي المقرب الوزير بيتر سيارتو.
الموضوع اليوم يُحتم عليّ أن أعرب عن خالص امتناني للسلطات المجرية، التي أبدت تضامنًا لا حدود له مع المجتمعات المسيحية في الشرق الأوسط، وقدمت المساعدات للمؤسسات المسيحية في المنطقة، واستجابت لمخاوفنا في ظل التطورات المشؤومة في الشرق الأوسط.
أولاً: مأزق التوافق
لقد سعينا، نحن التيار الوطني الحر، إلى التعبير عن هموم مجتمعنا، مع العمل على ترسيخ المؤسسات اللبنانية.
لطالما آمنا بأن كفاءتنا السياسية تتوقف على استقلالنا وحكمنا الذاتي، على عكس الأحزاب السياسية اللبنانية الأخرى الخاضعة لقوى خارجية أو أجندات خارجية. لطالما بقي التيار الوطني الحر وحيدًا في نضاله من أجل الاستقلال، وقد أثبت التاريخ صحة موقفنا. لقد وفرنا منصة مشتركة لجميع اللبنانيين الحريصين على إنهاء جميع الاحتلالات الأجنبية، ومؤخرًا، في عهد العماد ميشال عون، لعبنا دورًا محوريًا في استعادة حقوقنا من خلال تسهيل الاتفاقية البحرية مع إسرائيل، كما حررنا ارضنا في الشرق من احتلال الجماعات المتشددة السورية. نحن في التيار الوطني الحر فخورون باستقلالنا، خاصةً عندما نشهد النهاية المحزنة لاصطفاف بعض الأطراف وراء محور أو آخر، وهذا ما تسبب لنا في الآونة الأخيرة باحتلال جديد لأراضينا في جنوب لبنان من قبل القوات الإسرائيلية من جهة، وبسيطرة جديدة على قرارنا السياسي الوطني من جهة أخرى.
الأدلة التاريخية تشير إلى أن اللاعبين الرئيسيين غالبًا ما يتجاهلون مصالح وكلائهم المحليين:
التحالفات، التي تقودها قوى إقليمية أو دولية، تنتهي بخدمة مصالح اللاعبين المهيمنة فقط.
واجهت العديد من الأحزاب اللبنانية هذه الحقيقة المؤلمة على حسابها الخاص، إذ لم يعد لديها فجأة من تلجأ إليه وقت الحاجة. على الوكلاء أن يتذكروا دائمًا أنه مهما اختلفت الأيديولوجيات أو الخطابات، فإن رعاتهم سيعطون الأولوية دائمًا لمصالحهم الضيقة على حساب التحالف الذي يقودونه.
لا يتردد الرعاة في التخلي عن وكلائهم المحليين أو التضحية بهم: وتشهد العديد من الأمثلة الحديثة على ذلك في أفغانستان والشرق الأوسط، أو في أوروبا الأقرب إلينا.
علاوة على ذلك، غالبًا ما تتعارض مواقف الوكلاء مع المصالح طويلة الأمد لبلدانهم. في لبنان، دفعنا ثمنًا باهظًا بسبب الانحياز الأعمى للبعض. فقدت أرواح في حروب طاحنة، وضاعت أجيال في سبيل الآخرين، وتبددت الآمال في خدمة الشعارات. يتحمل المسيحيون والمسلمون مسؤوليةً في الوضع الراهن الذي يمر به بلدنا. فشبابنا يهاجرون بأعدادٍ كبيرة، ونحن نعاني من عبء كبير بسبب وجود أكثر من مليوني ونصف مليون نازحٍ سوريٍّ ولاجئٍ فلسطينيٍّ على أرضنا. لقد واجهنا مؤخرًا تغييراتٍ هائلةً تُبشر بعهدٍ جديد.
ثانيًا: ما هي الأولويات في ظل التوترات الراهنة؟
يجد لبنان، ومجتمعه المسيحي النابض بالحياة على وجه الخصوص، نفسه اليوم في وضعٍ دقيق. علينا أن نبقى حذرين للغاية تجاه التغييرات التي تُعيد رسم معالم المنطقة وحدودها وشعوبها بسرعة. وعلى الرغم من أن الصورة العالمية ليست واضحةً تمامًا، لا يسعنا أن نبقى مكتوفي الأيدي في حالة انتظار. في ظلّ التوترات الراهنة، أفضل ما يمكن للمسيحيين فعله هو تجنّب الانهيار بفعل التحولات الجذرية التي تُعيد تشكيل الشرق الأوسط. على لبنان أن يجد طريقه للخروج من هذه العاصفة، متجنّبًا الانجرار إلى تحالفات جديدة ناشئة على حساب سيادته واستقراره.
أ. الأولويات الثلاثة للمسيحيين في لبنان:
في ظل الظروف الراهنة، نرى أن للطوائف المسيحية في لبنان ثلاثة أهداف رئيسية تسعى إلى تحقيقها:
١. الحفاظ على دورها في النسيج السياسي والاجتماعي اللبناني، لا سيما من خلال الحفاظ على نموذج الدولة الوطنية التعددي والديمقراطي اللبناني.
٢. تجنّب الصراعات الداخلية والمحلية المؤدية إلى انهيار البلاد، من خلال انخراطهم الفعّال مع الطوائف الأخرى، فالمسيحيون هم صلة وصل تُضفي معنىً على نموذج "العيش المشترك" الذي ارسيناه.
٣. مع الاخذ بعين الاعتبار التحول الكبير في المنطقة، والتمسك بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التفكير والتعبير، بالإضافة إلى الحوار الديني والاقتصاد الليبرالي والتنمية والابتكار.
ب. تهيئة الظروف لحياد فعال:
الحياد في العلاقات الدولية ليس مجرد وضع، بل هو مشروط بمجموعة من الشروط الداخلية، إلى جانب ضامنين خارجيين.
١. يحاول لبنان التعافي بعد سلسلة من الأزمات الحادة التي أضعفته بشدة. فقد أدى العدوان العسكري الإسرائيلي الأخير إلى خسائر في الأرواح ودمار ونزوح داخلي هائل وقلق حقيقي بشأن المستقبل، مع استمرار الاحتلال واستمرار الهجمات رغم اتفاق وقف إطلاق النار.
أثرت الأزمة المالية، إلى جانب أزمة الحكم، بشكل سلبي على اقتصادنا بشدة وفاقمت من هشاشة مجتمعنا، وخاصةً الفئات الأكثر ضعفًا من سكاننا.
٢. الحياد يعني الابتعاد عن التحالفات والمواجهات الجيوسياسية. ليس الأمر سهلاً، إذ يتوقف على تغيير عقلية السكان واستعداد جيرانكم لقبول حيادكم والكف عن التدخل في شؤونكم الداخلية.
للأسف، حتى الآن، لعب جيراننا دور دعاة الحرب. لم يُظهروا أي اهتمام باستقرار لبنان وازدهاره.
في المرحلة الراهنة، يقع على عاتق المجتمع المسيحي اللبناني مسؤولية الانخراط في مسار إعادة تأهيل مؤسسات الدولة وبناء نظام قوي وخاضع للمساءلة. حينها فقط، سيتمكن المسيحيون اللبنانيون من التخفيف من مخاطر الصراعات الوشيكة بين الطوائف الإسلامية المتنافسة، التي تُؤججها القوى الإقليمية. عليهم أن يبنوا نموذجًا مضادًا للنموذج الذي يقدمه المتطرفون والمتشددون في المنطقة. نموذج مضاد قائم على التسامح والرحمة والحوار والبراغماتية، لا على التعصب والأوهام ورفض الآخر وتجريده من إنسانيته. إن لبنان ذا السيادة الكاملة، والذي تعافى من صدماته، والمنفتح على العالم من خلال دبلوماسيته وجاليته في الخارج، وغير المنحاز إلى أي من الكتل المتنافسة، يشكل رصيداً لمستقبل المنطقة.
ثالثًا: اليوم التالي للمضي قدمًا:
كان في صفوف المسيحيين اللبنانيين متشددون في الماضي، ولدى بعضهم نزعة عنصرية. ومثل غيرهم من المكونات السياسية في البلاد، انجرّوا إلى حرب أهلية دامية، وقاموا بإعادة تشكيل البلاد وفقًا لأهوائهم وخيالاتهم، مما جلب الفوضى إلى البلاد، وانتهت تجربتهم بسفك الدماء. بعد الحرب الأهلية، ذاق المجتمع بأكمله مرارة الهزيمة واليأس. كان اختيار أي طرف والتصرف بالوكالة خيارًا اتخذته طوائف أخرى، في مرحلة ما من تاريخنا المعاصر. ولطالما انتهت هذه التجارب بنتائج مأساوية بالنسبة لهذه الطوائف.
قبل استقلاله عام ١٩٤٣، كان لبنان ملاذًا آمنًا لشريحة واسعة من المسيحيين، مُدركة تمامًا لأصولها العربية، ومعتزة بهويتها اللبنانية. نشأت هذه المجموعة في بيئة تعددية ومتنوعة، حيث عاشت مجتمعات وطوائف مختلفة، مسلمة ومسيحية ويهودية، جنبًا إلى جنب، حاملةً قيم التسامح والإنسانية العالمية نفسها. ظلّ المسيحيون في لبنان متمسكين بأرضهم رغم الاحتلالات العسكرية. واصلوا التكيف مع الواقع، من دون أن يتنازلوا قط عن مبادئهم. ولم يتخلوا قط عن العمل من أجل السلام، إلا عندما اختطفت أجندات خارجية تمثيلهم السياسي. المسيحيون في لبنان هم حجر الزاوية في الشرق الأوسط الذي سيبرز بعد انقضاء الاضطرابات، وهم ركيزة التقارب بين الدول والمجتمعات. وبتمكينهم في العمل السياسي والإداري في البلاد، فهم الضامنون لحرية العمل الاقتصادي واستقلال القضاء.
غدًا، سيلعب المسيحيون اللبنانيون دور صانعي السلام في المنطقة بنجاح. سنبني على تراثنا، وسنبني على الخبرة المكتسبة في بناء ركائز التنوع والديمقراطية التي تدعم النموذج اللبناني. لقد توصلنا مع سائر الطوائف الوطنية إلى أن السلام هو مفتاحنا للاستقرار والازدهار والتقدم والتنمية. لعبنا دورًا اتحادياً في لبنان، ونحن مستعدون لتكراره في المنطقة. السلام هو المسار الذي يحثنا عليه عقلنا، إذ تُهدد الحروب وعدم الاستقرار وجودنا في المنطقة.
غدًا، سيلعب المسيحيون اللبنانيون دورًا محوريًا في إرساء سلام دائم، يحترم الجميع، وفقًا لخطة السلام العربية التي أُقرت في بيروت. سيستغلون انفتاحهم لحشد جميع المتحاورين للاتفاق على أن السلام هو السبيل الوحيد لإنهاء دوامة العنف الحالية، وإلا ستواجه المنطقة باستمرار صراعات متجددة.
غدًا، سيكون المسيحيون اللبنانيون فاعلين في سلام بين الحضارات والثقافات، سلام يجمع خصوم اليوم على طاولة واحدة. سلام حيث التسوية لا تعني التراجع إلى الوراء بل التحرك نحو الآخر.
نحن المسيحيون اللبنانيون، في عالم متغير، نتوق إلى سلام يحمي هويتنا ويُمكّننا من مواصلة تعزيز قيمنا لسنوات وسنوات قادمة في المنطقة التي ننتمي إليها.