بقلم المحامي وديع عقل -
ذات يوم، جلس شاب لبناني في منتصف العشرينات من عمره، يحدّق في شاشة هاتفه، يمرّ بأصابعه على صور أصدقائه الذين غادروا البلاد، واحدًا تلو الآخر.
بعضهم في كندا وأستراليا، آخر في الخليج، وواحدةٌ منهم أمام برج إيفل، بعدما تركت أهلها لتبدأ من الصفر.
تأمّل حالهم، وحاله، ثم همس لنفسه:
"ليش كل شي بوعدونا فيه، ما بيتحقق؟"
وهنا تبدأ القصة...
1966: الانهيار الأول
انهار بنك انترا، رمز الازدهار اللبناني، وسقطت معه ثقة الناس بالنظام المالي، أقفلوا المصارف في ١٧ تشرين!!
قالوا: "منعيد الثقة، ومننقذ الاقتصاد."
لكن الحقيقة؟ كانت تلك أولى خطوات الانهيار... ولا أحد تحمّل المسؤولية.
1969: اتفاق القاهرة
الدولة لم تحمِ حدودها، بل شرّعت سلاح المنظمات الفلسطينية.
بدأنا نفقد السيادة والقرار، ولم يتأخر الانفجار الكبير: حرب 1975، التي فتحت أبواب الاجتياح السوري، ثم الاحتلال الإسرائيلي، فالمجازر والدمار والتهجير.
1982–1985: وهم الخلاص
وقع الاجتياح الإسرائيلي سنة ١٩٨٢،
وبعد خروج ياسر عرفات من بيروت خرجت الميليشيات بوعود أن لبنان سينهض.
لكن البلاد غرقت أكثر في الحروب الداخلية، وانهارت ماليًا مجددًا عام 1984–1985.
كل مرحلة أتت بوعود إنقاذ، لكن من دفع الثمن؟ الشعب الآدمي.
التسعينات: عفو بلا عدالة
توقفت الحرب بعد الإجتياح السوري بدعم ميليشيوي للمنطقة الحرة في ١٣ تشرين ١٩٩٠، لكن بدل المحاسبة، أُقرّ قانون العفو.
أمراء الحرب تحوّلوا إلى سياسيين شرعيين.
بدعم دولي، وتحت الوصاية السورية، أُطلق أكبر نظام احتيال مالي منظّم (Ponzi Scheme).
نُهب وسط بيروت، ولم يعُد المهجّرون، بل سُرقت أرزاقهم مرتين.
2000–2005: انسحابات بلا إصلاح
انسحبت إسرائيل من الجنوب عام 2000 بعد مقاومة عسكرية، وخرج الجيش السوري عام 2005 بعد مقاومتنا الشعبية الشبابية.
لكن… هل تغيّر شيء؟
أمراء الميليشيات، أزلام الإحتلال، اصبحوا السياديين الجدد؛ الرعاة تغيّروا، لكن المنظومة بقيت هي ذاتها.
2006–2011: الحروب لا تنتهي
حرب إسرائيل في تموز 2006 أضافت مزيدًا من القتل والركام.
ثم انفجرت الحرب السورية، فدخل إلى لبنان 2.5 مليون نازح،
ليُضاف ضغط جديد على اقتصاد يترنّح، بخسائر قُدّرت بـ55 مليار دولار فضلاً عن المتطرفين المسلحين،
2019: الانفجار المالي الحقيقي
انهار النظام المالي، توقّفت الدولة عن الدفع، وأقفلت المصارف أبوابها،
واحتجزت أموال اللبنانيين؛ التاريخ ذاته ١٧ تشرين، تماما كما سنة ١٩٦٦.
لا محاسبة، لا محاكمات، فقط إفلات تام من العقاب.
ثم أتى انفجار مرفأ بيروت عام 2020، ليمحو ما تبقّى من أمل.
2023–2024: حرب جديدة...
حرب إسرائيل – حzب الأخيرة، خسائر تقدّر بـ12 مليار دولار،
ولا إعمار، ولا خطة، ولا مساءلة.
وعدونا بالتغيير، إنتخابات، حكومة، بالفرج، وجاءنا مزيد من اليأس، غياب للاستثمارات،
انعدام للسيادة، لا حلول، لا جدية، ولا دولة.
بلد اللاشيء... بلد المافيا
لبنان الجميل بات مأوى لمافيا تسيطر على كل شيء:
تتلوّن كالحرباء - طائفياً، مذهبياً، مناطقياً، وبرعاية دول أجنبية متعددة.
هي الوحيدة التي تستمر... أما المواطن؟ فباقٍ في اليأس والتعتير.
مافيا مستمرة... تعتمد على جماهير "لا تحاسب زعيمها".
لكن... في أمل
رغم كل شيء، هناك من قاوم.
من تجرّأ وواجه:
من منع "عفو جديد"!
من أقر التدقيق الجنائي رغم العراقيل!
من لاحق رياض سلامة،
من فضح فساد مالي،
من دافع عن أموال المودعين،
من قرّر ألا يهاجر... بل أن يُحاكم، ويصرخ، ويفضح.
المعركة مستمرّة
المافيا تغيّر أسماءها وراياتها... لكنها لا تتبدّل.
أما الشباب اللبناني، فهم الأمل الوحيد.
السؤال لم يعد:
"شو رح يعملوا فينا؟"
بل:
"شو رح نعمل نحنا فيهن؟"
يجب أن نستمر في المواجهة، لأن البلد بلدنا، ولبنان وطننا.