أنطوان الأسمر -
تُحكم على خناق الحكومة الأزمة الناتجة من جريمة قبرشمون وما إنطوت عليه من معطيات ومعلومات وثقتها التحقيقات الأمنية، وتحمل من الإثارة السياسية والأمنية ما يقتضي بقاؤها طيّ أوراق التحقيق.
في الأساس، يعود مردّ هذه الأزمة الحاكِمة، كما غيرها من أزمات غابرة او متوقعة، الى إنعدام الثقة بين طرفي الصراع السياسي. ولعل أبرز دلائل غياب الثقة، وتاليا المنطق السياسي، إستحضار واقعة مجزرة كنيسة سيدة النجاة من زمن غابر وإسقاطها على واقعة قبرشمون، للقول بأن ثمة من يستهدف حل الحزب التقدمي الإشتراكي وإعتقال قياديين فيها على غرار ما حصل مع القوات اللبنانية وقيادتها في العام ١٩٩٤. والمفارقة اللافتة والمعبّرة أن من إستحضر الواقعة الغابرة هو نفسه كان فرعا لا يتجزأ من السلطة التي نُكّل من أجلها ومن اجل فروعها بمن نُكّل من سياديين ووطنيين، بغاية إنبات طبقة سياسية فُرضت فرضا على الجماعة المسيحية.
ولا شك ان إستحضار هذا الغابر الذي نأى طويلا تحت نير الوصاية والإحتلال، وأفاد منه أول من أفاد فروع السلطة – ماضيا وحاضرا- ينطوي على محاولة خلق واقع مواز لحقيقة ما يحصل راهنا وأدى الى ما أدى من تعقيد سياسي وشحن مذهبي مفتعل مرتبط في الأصل بالصراع السياسي داخل الجبل، بعدما كرّست نتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة واقعا جديدا من شأنه أن يغيّر تدريجا في التوازنات، وإستطرادا المغانم في الإدارة والأمن وغيرهما.
وإنعدام الثقة بين الطبقة السياسية، وتحديدا فريقي الصراع، هو نفسه منشأ الأزمة المستجدة على خلفية المادة ٨٠ التي جرى إدراجها في قانون الموازنة، وبدت كأنها رمية من غير رام، ما أثار تعقيدا يضاف الى التعقيدات القائمة.
ولا تقتصر مفاعيل هذه التهريبة على المادة ٨٠ بحذ ذاتها، بل قد تؤثر سلبا في الجهود القائمة لترتيبات وتفاهمات سياسية، منها ما هو مرتبط بما حكي عن ورقة يجري إنعاشها بين التيار الوطني الحر وحركة أمل، ومنها ما هو مرتبط بتفاهم سياسي كبير قائم على مشروع الدولة المدنية، والأصح مشروع الدولة العلمانية، إذ إن الترجمة الفرنسية للعبارة الأولى لا تعكس حقيقتها. فـL'état civil هو في الحقيقة تعريفٌ وتحديد لهوية الفرد داخل العائلة وفي مجتمعه وتبيّن أنه مصطلح تبناه بعض الإسلام السياسي خوفا أو هربا أو تحسسا من كلمة laïque التي فسرها خطأ على انها متربطة بالإلحاد، بينما الدولة العلمانية ترجمتها الصحيحة هي L'état laïque حيث الدولة مبنية على أساس المواطنة لا الطائفة والمذهب، ومولجة تشكيل البناء الفوقي لمجتمع المواطنين بما يحفظ وجوده وتماسكه.
وإنطلاقا من أزمة المادة ٨٠ جاء كلام جبران باسيل مساء أمس من زحلة ليتحدث عن الإخلال بثلاثية التوازنات والتفاهمات والاتفاقيات، كنتيجة لتلك الازمة. فقيادة التيار الوطني الحر في موضع تساؤل عما إذا كان أمر ٤٠٠ شخص يعلو على مشروع الدولة العلمانية الذي سبق أن سوٌق له باسيل بإعتباره مساحة مشتركة مع حركة أمل يجب البناء عليها، أو يعلو على مقتضيات الوفاق الوطني والشراكة والمادة ٩٥ من الدستور التي حصرت المناصفة بالفئة الأولى لكن بعد تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية.
في إعتقاد أوساط ديبلوماسية أن أولى مداميك إخراج البلد من الأزمات السياسية الطارئة وتلك المتجذرة يكمن في العودة الى الحوار الهادف وإسقاط نظريات المؤامرة والإقلاع عن الإسقاطات السياسية التي لا مكان لها ولا منطق في التشبّه بها.
وتعتقد هذ الأوساط أن أزمة إفتقاد الطبقة السياسية الى الثقة ببعضها البعض هي المسبب الأساس للازمات المتناسلة، حيث يبادر طرفا الصراع ماضيا وحاضرا، وعلى الأرجح مستقبلا، الى إنتاج التعقيدات وإفتعال المشاكل والتأسيس على أوهام للخروج بخلاصات تزيد الأزمة الوطنية حدة، بإعتبار أن أدوار، وتاليا مكاسب، كثر من هذه الطبقة السياسية تغيب لا بل تنتفي متى إنتفت الأزمة.
وترة هذه الأوساط الديبلوماسية أن سوء التقدير وغياب حسن التدبير غالبا ما يكون العامل الحاكِم في السياسة اللبنانية والمتحكِّم بأداء القادة السياسيين. وثمة عشرات وربما مئات الأمثلة على هذا الواقع اللبناني الأليم، حيث ثمة من يضع لبنان على حافة حرب أهلية بفعل سوء فهم أو سوء تقدير لموقف بسيط، او بفعل مبالغة سياسية هدفها الأساس إبقاء التأزيم اللبناني على ما عليه طمعا بالإبقاء على مكاسب ظرفية شخصية وضيقة، تُختصر زورا بمصلحة جماعة!