<
19 November 2024
خطّة ترامب للبنان: سلام القوّة أم قوّة السلام (إسحق أندكيان - الجمهورية)

خلال حملته الإنتخابية، وعد الرئيس دونالد ترامب بإحلال السلام في الشرق الأوسط ووقّع تعهّداً خطّياً أمام حشد من اللبنانيّين في مطعم حسن عبّاس في ميشيغن. لم يحدّد ترامب وقتها آليّة وطريقة تحقيق السلام، بل اكتفى بالوعد بها وترك آليّة تحقيقها ضبابيّة.

توضّحت هذه الآليّة مع فوز ترامب واختياره للوزراء في إدارته العتيدة التي ستتسلّم زمام الحكم مع بداية العام المقبل. فور نشر الرئيس ترامب بياناً عن اختيار روبيو وزيراً للخارجيّة الأميركيّة صرّح الأخير قائلاً: بقيادة ترامب ستحقق واشنطن السلام بالقوة» في الشرق الأوسط. هذا الكلام يستدعي التوقّف عنده وشرحه لفهم العقليّة والذهنيّة الأميركيّة في مقاربة مسألة السلام في الشّرق الأوسط ولبنان.

كلام روبيو يعكس المدرسة الواقعيّة (Realism) الكلاسيكيّة التي تنتهجها الولايات المتّحدة الأميركيّة في علاقاتها الدوليّة وسياستها الخارجيّة القائمة على منطق القوّة، سواء القوّة العسكريّة أو الإقتصاديّة أو الماليّة أو التكنولوجيّة، التي تستدعي ضمان التفوّق في هذه المجالات في مواجهة بقية الدول للاستمرار كقطب أوحد في قيادة العالم.

نموذجان للقوة

في هذا الإطار، هناك نموذجان للولايات المتّحدة الأميركيّة، منها نموذج أوروبا خلال الحرب العالميّة الثانية ونموذج العراق وأفغانستان. في ما يتعلّق بالحرب العالميّة الثانية، كانت الحرب قائمة بين دول متحاربة وحقّقت الولايات المتّحدة الأميركيّة على رأس الحلفاء إنتصاراً عسكريّاً ساحقاً ضدّ ألمانيا النازيّة وفرضت السلام حسب المفهوم الأميركي، أي بالقوّة (Victor’s Peace) وسعت لتغيير المفهوم العنصري ـ السياسي لتفوّق العنصر الآري في ألمانيا عبر سلسلة من الهندسات الإجتماعيّة (Social Engineering) منها إعادة إعمار البشر والحجر عبر خطّة مارشل.

أمّا نموذج أفغانستان والعراق في العامين 2001 و2003 على التوالي، إرتكز على مبدأ القوّة العسكريّة في محاربة ميليشيات وحركات أصوليّة وتمرّدات وأطراف غير حكوميّة (non-state actor) وفرض التغيير في هذه المجتمعات بمنطق القوّة، وكانت النتيجة الفشل الذريع بحسب إعترافات كثير من القيادات السياسيّة والعسكريّة والأمنيّة الأميركيّة، ممّا أدّى للإنسحاب العسكري من العراق في 2011 وأفغانستان في 2021 من دون تحقيق السلام المنشود.

نموذج السلام بالقوّة في لبنان

في ما يتعلّق بلبنان، النموذج الثاني غير وارد لأسباب عدة، منها على سبيل التعداد لا الحصر، أنّ مصير تطبيق هذا النموذج في لبنان سيلقى مصير سابقاته في العراق وأفغانستان، للتشابه في السياق والظروف، بالإضافة إلى وجود عوامل عدة ومتغيّرات في لبنان والإقليم لا توحي بنجاح هذا النموذج. وبالتالي يبقى لنا البحث، ولو بإيجاز عن مدى إمكانيّة تطبيق النموذج الأوّل في لبنان ونجاحه من زاوية فرض سلام المنتصر حسب تصريحات روبيو. تحقيق السلام بالقوّة يتطلّب طرفاً رابحاً يحقّق النصر الساحق، وآخر خاسراً مكسوراً ومهزوماً في الحرب. الأسئلة التي تطرح نفسها هنا تتضمّن: كيف يمكن للولايات المتّحدة الأميركيّة و/أو إسرائيل، سحق محور المقاومة في لبنان عسكريّاً، مع العلم أنّ مقاتلي المحور لا يهابون الموت لا بل يتمنّونه لأنّهم يؤمنون أنّ الله قد يكافئهم بالشهادة وهذا في نظرهم انتصار. هذا المفهوم يستدعي سؤالاً آخر: إذا استطاعت دول التحالف خلال الحرب العالميّة الثانية الإنتصار على ألمانيا النازيّة والقضاء على الإيديولوجيّة العنصريّة ـ السياسية القائمة عليها، فكيف يمكنها القضاء على إيديولوجيّة محور المقاومة، مع العلم أنّها ليست إيديولوجيا سياسية فحسب، بل عقيدة يتداخل فيها الدين بالسياسة على مدى 1400 عام، تعود جذورها إلى واقعة كربلاء ومفهوم الشهادة المرتبطة بها، ليشكّل ذلك أحد وجوه الإسلام الثوري الشيعي الذي انتهج نهج الوليّ الفقيه منذ الثورة الإسلاميّة في إيران العام 1979، وبالتالي ليس من السهل على أي طرف أو دولة كانت القضاء على عقيدة كهذه بالقوّة العسكريّة فقط. هذا بالإضافة إلى أنّ فرض السلام أو تحقيقه بالقوّة يستوجب وجود طرف منتصر ـ وهو الطرف الأميركي بحسب منطق روبيو- وطرف آخر مكسور ومذلول ومنهزم ـ وهو طرف محور المقاومة أيضاً بحسب منطق روبيو.

على رغم ممّا ورد أعلاه، لا يمكن التحييد المطلق لدور القوّة العسكريّة في تحديد مسار الأمور والتوصّل إلى تفاهمات معيّنة أو حتّى تحقيق السلام، إذ إنّ للقوّة العسكريّة دوراً في زيادة الضغط على محور المقاومة، ليس لتحقيق الإنتصار العسكري الحاسم عليه، فإسرائيل تعتمد استراتيجيّة الصدمة والرّعب (Shock and awe) من خلال التدمير الممنهج للإضرار بالقرى والمناطق الشيعيّة، وإيلام المجتمع الشيعي في لبنان، لخلق وضع ضاغط على القيادات السياسيّة الشيعيّة تتطلّب منهم القبول بالشروط الغربيّة لوقف العمليّات العسكريّة والتهيئة لتفاهمات تفرضها إسرائيل، التي تعتقد أنّ لها اليد العليا في فرض شروط أي مفاوضات مقبلة، سواء أكانت مفاوضات وقف إطلاق نار أو حتّى تحقيق سلام.

على رغم من أنّ روبيو يريد تحقيق السلام في الشرق الأوسط بالقوّة، فذلك عمليّاً غير ممكن لأسباب عقائديّة ودينيّة ولوجستيّة. ولو سلّمنا جدلاً أنّ ممكناً ذلك، وأنّ إسرائيل تمكّنت من سحق محور المقاومة بمساعدة أميركا، وبالتالي تمكّنت من تحقيق السلام بالقوّة، فذلك لا يُعدّ سلاماً حقيقيّاً، بحيث يقول المفكّر والفيلسوف السياسي إيمانويل كانط في كتابه «السلام المستدام» (Perpetual Peace) المنشور في العام 1795، إنّ «الثقة هي عامل أساسي لإرساء السلام الحقيقي بين الأفرقاء المتحاربين»، مضيفاً: «لن تُعتبر أي معاهدة سلام صالحة إذا كانت تحتوي على نية سرّية لاستئناف الحرب في فرصة أكثر ملاءمة. يجب التمييز بين اتفاقيات السلام الحقيقية والهدنة إذا كانت الدول ستتعلم الثقة في بعضها البعض». وبالتالي، إذا توصّل الإسرائيليّون والأميركيّون إلى تحقيق السلام بالقوّة، فذلك لن يكون سلاماً فعليّاً، بل لن يتجاوز كونه هدنة موقّتة أو تعليقاً للأعمال العدائيّة، لأنّ محور المقاومة حينها سيتهيّأ ويتحيّن الفرصة للتحضّر للحرب المقبلة حين تنضج ظروفها، كما فعلت إسرائيل حاليّاً. إذ إنّها استعدت منذ تمّوز العام 2006 لهذه الحرب، لأنّ القرار 1701 ومندرجاته لم يطبّقه جميع الأطراف، والثقة بين المتحاربين مفقودة لإنهاء الأعمال العسكرية والعدائيّة لا لتعليقها. في المقابل، لا حلّ لإيقاف الحرب في لبنان فعليّاً وتحقيق السّلام الدائم إلّا بأخذ هواجس الأطراف المتقاتلة في الاعتبار، وتحقيق تسوية سياسيّة شاملة على المستوى الإقليمي (Marco-level) مع إيران راعية محور المقاومة وداعمتها وتحقيق الثّقة المفقودة بين المتحاربين.

رؤية بديلة لتحقيق السلام

في مقابل منطق روبيو، ثمّة أفراد في الإدارة الأميركيّة المقبلة تؤمن في أنّ تحقيق السلام في لبنان لن يكون بالقوّة أو باستهداف «محور المقاومة»، لأنّ الأخير ما هو إلّا أداة لتنفيذ أوامر إيران، باعتراف قادة هذا المحور الذين يردّدون مراراً وتكراراً أنّهم جنود عند الوليّ الفقيه.

إيلون ماسك أحد الداعمين الأساسيّين لترامب ووزير في حكومته، هو أحد هذه الشخصيّات الأميركيّة، بدليل أنّه توجّه إلى الأصيل (إيران) لا الوكيل (محور المقاومة في لبنان) وخرق السياسة الأميركيّة المتّبعة منذ أزمة الرهائن الأميركيّين في العام 1979 القائمة على المقاطعة الديبلوماسيّة مع إيران وعدم التواصل معها مباشرة بل عبر وسطاء دوليّين. فبحسب صحيفة «نيويورك تايمز» إجتمع إيلون ماسك مع السفير الإيراني لدى الأمم المتّحدة في نيويورك نهار الاثنين في 11 تشرين الثاني، وبحث معه على مدار أكثر من ساعة في طريقة نزع فتيل التوترات بين إيران والولايات المتحدة، وهذا الأمر ينعكس على الحرب الدائرة في الشرق الأوسط. إذاً البديل الآخر عن منطق القوّة هو الحوار والتفاهمات والتسويات السياسيّة.

إلى حين تحقيق السلام أو وقف إطلاق النار، سواء بالقوّة أو بالحوارات والتفاهمات السياسيّة، يبدو أنّ بقعة الحرب ستتوسّع وتزيد من وطأتها وثقلها على المجتمع اللبناني على الأقلّ حتى تسلّم ترامب وإدارته العتيدة الحكم رسميّاً في بداية السنة المقبلة. إذ حينها فقط يتضّح أي من النموذجين ستعتمده إدارته في تحقيق أهدافها.