<
25 February 2025
إيران مستنفرة: بأي ثمن... لن نخسر لبنان!

طوني عيسى -

هل سكت الإيرانيّون على مضَض، لإمرار مناسبة تشييع السيدَين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين، على أن يكون لهم بعد ذلك حديث آخر في لبنان؟ بالتأكيد نعم. ولكن، ما الحدود التي يرسمونها لأنفسهم في المواجهة؟ الجواب ستحمله الأيام الآتية.

يَنظر الإيرانيّون بقلق إلى تآكل خريطة الشرق الأوسط. فهي تقلّصت بمقدار كبير من حيث الاتساع والنوعية. والضربة الأكثر خطورة لمشروعهم هي بالتأكيد خسارة نظام بشار الأسد في سوريا وانتقال السلطة إلى أيدي خصومهم. وفي الواقع، حصل أول تراجع لنفوذهم في دمشق في العام 2015، عندما دخلت موسكو بقوّاتها العسكرية إلى سوريا ووفّرت الحماية لنظام كان على وشك السقوط.

حتى تلك اللحظة، كانت إيران تُدير حرباً شرسة، من خلال «الحرس الثوري» و»حزب الله» وفصائل أخرى، لمنع النظام من السقوط، وقد نجحت في ذلك لسنوات، وباتت في سوريا على ضفاف المتوسط ومشارف أوروبا، تماماً كما في لبنان، حيث نجحت أيضاً في امتلاك ورقة «إزعاج» إسرائيل على حدودها الشمالية.

استفاد «القيصر» الطموح، فلاديمير بوتين، من وصوله إلى المياه الدافئة، ليبني قاعدتَين عسكريّتَين على الضفاف السورية للمتوسط. وأدّى ذلك واقعياً إلى إنهاء احتكار إيران للسيطرة في الجانب السوري من المتوسط، وتقلّصت إلى كيلومترات محدودة في لبنان.

خلال هذه الفترة، أبرم بوتين اتفاقَين منفصلَين ومتناقضَين سياسياً، مع طرفَين فاعلَين في سوريا، بهدف ضمان استقرار سيطرته وهما إيران وإسرائيل. فقد سمح للحليف الإيراني بالاحتفاظ بمكتسباته ومواصلة أنشطته المختلفة، بما فيها العسكرية في دمشق، وبحرّية عمل «حزب الله» من لبنان وإليه. وفي المقابل، تفاهم مع إسرائيل على عدم إعاقة أي عمل عسكري ضدّ إيران في سوريا، شرط أن لا تمسّ بمصالح موسكو. ووجد الإيرانيّون أنّ ما تفعله روسيا هو أفضل الممكن، واقتنعوا بأنّ عليهم أن يتدبّروا سبُل المواجهة مع إسرائيل.

بزوال نظام الأسد، زال أيضاً دور روسيا وإيران في سوريا. وجاء ذلك في سياق ضربة مزدوجة وجّهتها إسرائيل لحلفاء إيران في غزة ولبنان. وبات هاجس طهران الأساسي تأمين آليات بديلة لإيصال المؤن العسكرية والمالية إلى «حزب الله» لئلّا يتلاشى نفوذه، فتخسر 3 أوراق حيَوية: السلطة المركزية في بيروت، الانتشار على حدود إسرائيل ومنصة الانطلاق المتوسطية نحو أوروبا. لكنّ قدرة إيران على تحقيق هذه الأهداف تبدو صعبة جداً، بل شبه مستحيلة. فكيفما تقلّبت الظروف، لن يُتاح لـ»الحزب» الحصول على السلاح من سوريا، لا من خلال المعابر الشرعية ولا المعابر غير الشرعية، لأنّ خصومه الممسكِين بالسلطة هناك لن يسمحوا بذلك في أي يوم، ولو حاول الإيرانيّون تصحيح العلاقة والتقرّب منهم. وفوق ذلك، تأخذ إسرائيل على عاتقها، وفي شكل حثيث ومتواصل، وبتغطية أميركية، ضرب أي محاولة من هذا النوع، من أقصى جنوب الحدود اللبنانية - السورية إلى أقصى شمالها، مستفيدةً من مضامين اتفاق وقف النار الذي يمنحها هامش الضرب في لبنان من دون ضوابط، كما يبدو حتى الآن.

وفي الموازاة، تبدو السلطة الجديدة في لبنان جادّة وحازمة في سعيها إلى إنهاء حال التفلّت على الحدود مع سوريا كما على الشاطئ. وبناءً على هذه المعطيات، بات احتمال حصول «حزب الله» على إمدادات جديدة بالسلاح ضعيفاً جداً. وأمّا استعادة الإمدادات بالمال فقد باتت أكثر صعوبة، لكنّها أقل تعقيداً من الإمداد بالسلاح.

هذا المشهد تعتبره إيران مصيرياً في ما يتعلق بنفوذها الإقليمي. واليوم، تبدو قوة «حزب الله» هي وحدها الكفيلة بتحديد ما إذا كانت إيران دولة «عادية» في الشرق الأوسط أم هي إحدى إمبراطورياته الواسعة النفوذ كإسرائيل وتركيا. وعلى ذلك يتوقف إلى حدٍ بعيد، مصير ملف إيران النووي، لأنّ تراجع نفوذها الإقليمي سيمنح الولايات المتحدة وإسرائيل قدرة على تطويقها وفرض الشروط عليها.

إذاً، بهذه الأهمية تنظر طهران إلى مسألة بقاء «حزب الله» قوياً في لبنان، عسكرياً ومالياً. فهي تريده أن يبقى متفوّقاً، لأنّ تحوُّله مجرّد حزب سياسي يجعله مساوياً في الحقوق والواجبات للأحزاب اللبنانية الأخرى لا متفوّقاً عليها.

لذلك، يمارسون منذ أيام ضغوطاً مختلفة لـ»كسر» إرادة السلطة الجديدة في لبنان، وإفشال جهودها الرامية إلى منع وصول المؤن إلى «الحزب» أو منع استضعافه داخل السلطة أو اتخاذ قرار بنزع سلاحه في شمال الليطاني. وما المواجهات التي جرت على طريق المطار، على خلفية منع هبوط الطائرتَين الإيرانيّتَين، سوى مقدّمة للمواجهة.

وفي الساعات الأخيرة، ظهر تنافر معلَن بين بيروت وطهران، هو الأول من نوعه، تجلّى بإعلان الرئيس جوزاف عون خلال استقباله رئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف، أنّ لبنان الذي يدعم مبدأ عدم تدخّل أي دولة في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، قد أعياه التعب من حروب الآخرين على أرضه. وهو، إذ دفع كثيراً في سبيل القضية الفلسطينية، يلتزم القرارات العربية التي تعتبر أنّ السلطة الفلسطينية هي الممثل الشرعي لشعبها. وبهذا، يختلف لبنان الرسمي مع إيران، ويطالبها صراحةً بوقف تدخّلاتها في الساحة اللبنانية، لتتولّى سلطته المركزية إدارة شؤونه وتحديد خياراته بحرّية ووفقاً لمصالحه الوطنية. ويتردّد أنّ الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان كان يرغب في حضور التشييع شخصياً، أول من أمس، بناءً على دعوة من نظيره اللبناني، لكن ذلك لم يحصل.

في ظل هذه الوقائع، تبدو إيران أمام أحد خيارَين: هل تقبل بالخسائر في لبنان وسوريا وغزة، وتتعاطى معها كأمر واقع، أم تقاتل حتى النهاية وتستنفد آخر محاولة وآخر خرطوشة؟

ثمة من يخشى أن تختار القتال انتحارياً في لبنان، لعلها تحافظ لحلفائها على الحدّ الأدنى من النفوذ الذي دفعوا أثماناً باهظة لتحقيقه. لكن، هل ما زالت إيران قادرة على خوض هذه المواجهة؟ وهل يوافقها «حزب الله» أم يُرجّح خيارات واقعية تتلاءم مع الخصوصيات اللبنانية؟

 

الجمهورية