<
02 March 2025
الراعي: الحياد لا يعني الإستقالة بل يعدل دور لبنان ويجعله شريكًا في إيجاد الحلول

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الأحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي عاونه فيه المطران أنطوان عوكر، امين سر البطريرك الأب هادي ضو، رئيس مزار سيدة لبنان_حريصا الأب فادي تابت، ومشاركة عدد من المطارنة والكهنة والراهبات، في حضور الوزير السابق وليد نصار، قنصل لبنان الفخري في فلورانس_ إيطاليا شربل الشبير، الامينة العامة للمؤسسة المارونية للانتشار هيام بستاني، رئيس مؤسسة البطريرك صفير الإجتماعية الدكتور الياس صفير، باتريك نجل الشهيدين صبحي ونديمة الفخري، وحشد من الفاعليات والمؤمنين.

بعد الإنجيل المقدس القى الراعي عظة بعنوان: "كان عرس في قانا الجليل" (يو 3: 1)، قال فيها: "في هذا الأحد نفتتح زمن الصوم الأربعينيّ بعرسٍ في قانا الجليل شارك فيه الربّ يسوع وأمّه تلاميذه. وبه افتتح رسالته العلنيّة بعمر ثلاثين سنة بعد قبوله معموديّة يوحنّا المعمدان، للدلالة أنّ يسوع هو عريس البشريّة الجديدة المتمثّلة في الكنيسة، وتبقى سعادة اللقاء به ونيل نعمة الخلاص والفداء هي أسعد ساعات العمر. كذلك زمن الصوم هو أسعد ساعات العمر لأنّه يرمّم العلاقات بأبعاده الثلاثة: بالصوم نرمّم علاقتنا بذواتنا، بالصلاة نرمّم علاقتنا بالله، بالصدقة نرمّم علاقتنا بالإخوة المعوزين. وتحتفل كنيستنا المارونيّة، في هذا اليوم الثاني من شهر آذار، بعيد أبينا القدّيس يوحنّا مارون أوّل بطريرك مارونيّ على كرسيّ أنطاكية الذي أسسه القدّيس بطرس قبل التوجّه إلى رومية وتأسيس كرسيّه هناك حيث استشهد مصلوبًا. انتُخب القدّيس يوحنّا مارون بطريركًا حوالي سنة 686 عندما خلا كرسيّ أنطاكية من بطريرك متّحد بروما. وكان الأساقفة الموارنة رؤساء الأديار التي أُنشأت في أعقاب مجمع خلقيدونية حيث رهبان مار مارون تجلّوا فيه وأخذوا بتعليمه مع القدّيس البابا لاوون الكبير وهو أن للمسيح طبيعتين كاملتين إلهيّة وإنسانيّة في وحدة أقنومه. نصلّيّ إلى القدّيس يوحنّا مارون طالبين شفاعته ليظّل الموارنة أمناء لعقيدتهم وملتزمين بإيمانهم".

وتابع: "يسعدني أن أرحّب بكم جميعًا للإحتفال بهذه الليتورجيا الإلهيّة. وأوجّه تحيّة خاصّة إلى أشقّاء وشقيقتي المرحوم شربل يوسف صفير الذي ودّعناه معهم منذ عشرة أيّام، نصلّي لراحة نفسه، وعزائهم الإلهيّ. يبدأ غدًا الصوم الكبير ونرسم بالرماد إشارة الصليب على جباهنا للندامة والتوبة، وللتذكير بأنّ الإنسان مهما علا أو تجبّر هو من "التراب وإلى التراب يعود" (را تك 3: 19). فالمهمّ هو مصير نفسه. ذرّ الرماد عادة قديمة لدى جميع الديانات والشعوب للدلالة على الندامة عن جميع خطاياهم. ولكن في المسيحيّة الندامة يرتبط بها سرّ الإعتراف من أجل الإصلاح في الحياة والعيش في حالة النعمة. يتزامن الصوم الكبير مع بداية شهر رمضان المبارك، وهو زمن الصوم عند الإخوة المسلمين، نتمنّى لهم صومًا مباركًا مرضيًّا من الله. فها لبنان كلّه في حالة صوم وندامة وعودة إلى الله، نرجو لها أن تكون فاتحة خير على الجميع. وفي احتفالات يوم الجمعة طيلة زمن الصوم سواء بدرب الصليب أم بصلاة المساء في جميع الكنائس نتأمّل في سرّ حبّ المسيح للبشريّة، ونندم على إساءاتنا لهذا الحبّ الإلهيّ".

وقال: "يقوم زمن الصوم على ثلاثة:

الصوم من منتصف الليل إلى نصف النهار مع إماتات مختلفة تكفيرًا عن خطايانا، والقطاعة عن اللحم والبياض أيّام الجمعة. وبهما نروّض إرادتنا على الإبتعاد عن أيّ شرّ حبًّا بالمسيح، ونرمّم علاقتنا مع ذواتنا.

الصلاة بالخلود إليها في زمن الصوم مع سماع المواعظ في كنائس الرعايا، وبها نرفع نفوسنا وعقولنا إلى الله. فالصلاة هي أكسجين النفس. وهي ترميم العلاقة مع الله.

الصدقة تجاه الفقراء والمعوزين، وما أكثرهم! والقاعدة هي أنّ ما نوفّره بصومنا نساعد به إخوتنا بحاجاتهم، إمّا مباشرة، وإمّا بواسطة مؤسّسات خيريّة مثل كاريتاس لبنان، جهاز الكنيسة الإجتماعيّ. بالصدقة نرمّم العلاقة مع الإخوة المعوزين.

في عرس قانا كانت الكنيسة كلّها حاضرة: يسوع المسيح، وأمّه مريم، والتلاميذ، والعروسان والمدعوّون إلى العرس. في هذا العرس تشفّعت مريم لدى ابنها: "ليس عندهم خمر" وهي تعرف ابنها أكثر من أيّ شخص آخر، وقالت للخدم: "مهما يقل لكم فافعلوه". فقال لهم يسوع املؤوا الأجاجين الستة ماءً. ثمّ قال: "استقوا الآن وناولوا رئيس المتّكأ". ففعلوا. فكان الخمر فاخرًا جدًّا. هذه الخمرة الجديدة الفاخرة ترمز إلى الشريعة الجديدة، شريعة النعمة المبرّرة التي تقدّس العروسين، وشريعة النعمة الحاليّة التي ترافق حياة الزوجين وتعضدهم وتثبّتهم في الحبّ الزوجيّ الأمين، وفي ديمومة شركة الحياة معًا، وفي إنجاب البنين وتربيتهم، وفي تقديس الذات عبر الحياة اليوميّة، وفي أفراح الحياة وعذاباتها، وفي نجاحها وفشلها. مكوّنات الكنيسة تتواصل في الكنيسة البيتيّة المصغّرة التي هي العائلة (الدستور العقائديّ في الكنيسة، 11): إنّها على صورة الإتحاد بالمسيح، وتتصف بالديمومة وعدم الإنفصام، وبالوحدة العضويّة بين الزوجين وتكاملهما في جسد واحد بالحبّ الزوجيّ (متى 19: 4-6). إنّ الكنيسة تجد ذاتها في المجتمع البشريّ وفي الدولة في كلّ مرّة كانا على صورة الكنيسة في الحقيقة والحبّ والمصالحة، وفي مغفرة الإساءة والمصارحة، وفي التعاون المتبادل من أجل تأمين الخير العام. وهذا سعي كلّ ودولة يعيشه المواطنون والمسؤولون".

واردف: "لقد سُرّ المجتمع اللبنانيّ بحصول حكومة الرئيس نوّاف سلام الثقة بخمسة وتسعين صوتًا، وهي صورة ثقة اللبنانيّين والدول، بالإضافة إلى ثقتهم بشخص رئيس الجمهوريّة العماد جوزاف عون. وها هما أمام واجب تثمير هذه الثقة بالإصلاحات، وإعادة الإعمار، والنهوض الإقتصاديّ، وترميم المؤسّسات العامّة من الداخل، وقيام الدولة ومؤسّساتها، وإجراء المصالحة بين اللبنانيّين على أساس الإنتماء إلى وطن واحد، والمساواة بينهم جميعًا، بحيث يكون "لبنان وطنًا نهائيًّا لجميع أبنائه" كما تنصّ المادّة الأولى (أ) من مقدّمة الدستور، على أن يكون ولاء جميع اللبنانيّين لهذا الوطن الواحد. وبعد ذلك السير نحو إعلان الحياد الإيجابيّ بجميع مفاهيمه. وتجدر الإشارة إلى أنّ الحياد لا يعني الإستقالة من "الجامعة العربيّة"، ومن "منظّمة المؤتمر الإسلاميّ"، ومن "منظّمة الأمم المتّحدة"، بل يعدل دور لبنان ويفعّله في كلّ هذه المؤسّسات وفي سواها، ويجعله شريكًا في إيجاد الحلول عوض أن يبقى ضحيّة الخلافات والصراعات".

وختم الراعي: " فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، من أجل أن يكون زمن الصوم الكبير زمنًا مقبولًا، ومجدّدًا ومرمّمًا علاقاتنا مع ذاتنا ومع الله ومع إخوتنا المعوزين. للثالوث القدّوس كلّ مجد وشكر، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".

بعد القداس، استقبل الراعي المؤمنين المشاركين في الذبيحة الإلهية.