<
08 March 2025
نواف سلام التقدّمي الذي سهت عنه اللامركزية الموسّعة!

أنطوان الأسمر-

يحيط التباساً أداءُ رئيس الحكومة نواف سلام وعلاقته بسائر المؤسسات الدستورية، وتحديدا رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب. ينسحب هذا الالتباس على علاقته بالأحزاب، وبالطبقة السياسية عموما. وهو ناتج، في الغالب، من حقيقة أن الرجل آت من خارج الأسوار المغلقة لطبقة جمهورية الطائف، بل من موقع الرائي - التقدّمي لما حل من هدم في الدولة ونواتها الصلبة ومؤسساتها وإداراتها، والأهم دورها الرعائي المفقود.
يُحسب هذا الواقع لسلام لا عليه. فما تراكم في الذاكرة الجَمْعية للبنانيين من شوائب وملاحظات على أداء الطبقة السياسية قبل سنوات التسعين، زمن الجمهورية الأولى، وبعدها، زمن الجمهورية الثانية، ظل عصيا على الهضم والاستيعاب. لكنه هو أيضا وقع في عدد من العثرات، شكلا ومضمونا، منذ التكليف.
لم يعد خافيا أن الرجل أوكل نفسه بمهمّة استنهاض الدولة، لكن من طريق تحييد إعادة بنائها عن الأحزاب قدْر ما اتاحت له الظروف. وهو استعان لهذه الغاية بمجموعة من نواب التغيير ومن الأصدقاء والانسباء ممن شكّلوا عماد "كلّنا إرادة". لكنه هنا تحديدا وقع في ما لم يكن يحسِب له. استعان بمن يطمح إلى تأسيس زعامة حزبية موازية للأحزاب التقليدية، وبمن تحرّكه الرغبة في تأسيس ولاية نيابية أو تجديدها. هو بذلك يسعى إلى استبدال طبقة بطبقة شبيهة، لا بل بعض أفرادها أشدّ مكرا وفتكا إذا ما كُتبت لهم السلطة.
ما فعله أنه:
1-نجح في احتكار التمثيل السنّي. لم يعر انتباها إلى أي من المراجعات والاعتراضات التي جاءته من الكتل السنيّة، وحتى من المرجعية الدينية العليا. في ظنّه، وهو على حق، أن ما كُتب له من دعم خارجي قد كُتب، وأن هذه الكتل لن تتأخّر في الإلتحاق به وستتجاوز اعتراضاتها مرغمة وصاغرة، لا باختيارها. وهو ما حصل في جلسة الثقة.
2-نجح في اختراق جدار تمثيل المسيحيين وزاريا. كان من المفترض أن يكون هذا التمثيل حكرا على الأحزاب، امتدادا لممارسات التصحيح التمثيلي الذي حصل منذ سنة 2008. لكن سلام تجاوز هذا الواقع وحجّته أنه لا يريد مجلس نيابيا مصغّرا داخل حكومته. فسمّى من حصته وزيرين أرثوذكسيا وكاثوليكيا.
3-نجح في إلباس القوات اللبنانية رداء وزاريا فضفاضا. منحها في الشكل 4 وزراء، هم في الحقيقة وزير واحد بالكاد، فيما الثلاثة هم من حصته أيضا. وكل كلام مغاير تسقطه مداولات مجلس الوزراء وخطاب الوزراء الثلاثة قبل التوزير وبعده. وهم بالطبع أقرب بكثير إلى وجهة نظر رئيس الحكومة من وجهة النظر القواتية. كما تسقطه ما تفاهم عليه هو شخصيا مع هؤلاء لجهة علاقتهم مع القوات ورئيسها سمير جعجع.
4-نجح في إحراج التيار الوطني الحر لإخراجه. ولم يعد خافيا فحوى مداولات سلام مع قيادة التيار الليلة التي سبقت التكليف ومن ثم في الأيام العشرة اللاحقة، والتي انطوت على تفاهمات واسعة، من العدد إلى مضمون البيان الوزاري، لا سيّما النقاط الدقيقة والحرجة فيه كالسلاح والقرار 1701 واتفاق وقف إطلاق النار والنازحين واللامركزية الموسّعة. لكن كل تلك التفاهمات جمدّها سلام قبل 11 يوما من الولادة الحكومية، من دون أن يجد نفسه مضطرا إلى التسويغ أو إلى توضيح ما دفعه إلى تجاوز كل ما تفاهم عليه مع التيار.
غير أن كل هذا الضبط والانضباط السلاميّ للأحزاب تحلّل عند اختيار الوزراء الذين يمثلون المكونين الشيعي والدرزي، ولا يحتاج إلى كثير شرح واستفاضة.
يبقى أمر شديد الدلالة إتّكاءً على النظرة إلى تقدمية رئيس الحكومة ورغبته في إعادة بناء الدولة المتحررة من سطوة القبائل الطائفية والحزبية. كانت اللامركزية في صلب أدبياته طوال 3 عقود من النصوص التي وضعها بحثا عن تطبيق الإصلاحات المفقودة منذ الطائف.
أ-في 14 كانون الثاني 2025، تحدث سلام في قصر بعبدا، مباشرة بعد تكليفه بتأليف الحكومة، عن أن "الأساس في الإصلاحات السياسية التي طال انتظارها هو العمل في آن واحد على تنفيذ أحكام الطائف التي لم تنفذ بعد، وعلى تصحيح ما نفذ منه خلافاً لنصّه أو روحه، وعلى سد ثغراته. وهذا لا يتحقّق من دون العمل على تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة، ومن دون سلطة قضائية مستقلة ومؤسسات أمنية فاعلة".
ب-في 11 شباط، أكد سلام أهمية تطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة كجزء أساسي من إصلاحات اتفاق الطائف، مشيرًا إلى أنها تحمل بُعدًا إنمائيًا وتُعزز الرقابة المحلية.
ج-في 26 شباط، أسقط سلام اللامركزية كليا من خريطة الطريق التي خطّها لنفسه في السنة ونصف السنة الآتية، وسط صمت كل مكونات الحكومة، بما فيها تحديدا القوات اللبنانية.
فما الذي حصل كي ينتقل سلام من الحماسة الشديدة إلى اللامركزية كأحد أسس الإصلاحات السياسية، إلى الإهمال الكلّي لها؟
لم يكن ذلك، بالتأكيد، هفوة. ربما سوء تقدير. لكن الأخطر أن يعكس هذا التراجع في التقدميّة، العودةَ إلى النزعة الفردية الباطنية اللبنانية، إلى الطائفة – القبيلة متى جدَّ الجدُّ.
هذا يتطلب حكما توضيحا من رئيس الحكومة لكي يُسقِط التأويلات والكلام عن مقايضات سياسية – طائفية، ولكيّ يُبدِّد الهواجس من مقاربات رجعية ومقفلة ليس سلام من أهلها، أو هكذا يؤمل!